زار الرئيس الجديد الجامعة أول هذا الأسبوع ليقسم اليمين الدستوري مرة ثالثة. ويخاطب جمهور المثقفين والعلماء بعد أن عاب عليه الناس أنه ذكر جميع الفئات في خطاباته الماضية حتى سائقي التوك توك ونسي المثقفين والعلماء والأدباء والفنانين وهم الذين يتخوفون على حرية الإبداع. وكان الرئيس قد أقسم أولاً اليمين الدستورية قبل ذلك بيوم واحد، يوم الجمعة، جمعة استعادة الثورة. وبالتالي جمع بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية والشرعية الأدبية. فأرضى الشعب ممثلاً في الميدان والذي تخوف من القسم أمام المحكمة الدستورية العليا حتى لا يتم الاعتراف بالبيان التكميلي للدستور الذي ينص على ذلك. وأرضى شرعية الدولة ممثلة في الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا. وأرضى شرعية المثقفين والأدباء والفنانين ممثلة في الجامعة. وكان الرئيس المنتخب الجديد قد أوصى بعدم إيقاف المرور حين مروره أو تحويل الإشارات الضوئية إلى خضراء له وحمراء للجمهور أو توقف المرور بالساعات وغلق الشوارع كما كان يفعل الرؤساء السابقون. كما أوصى بعدم وضع صوره وتعليقها فوق الحوائط في دور الحكومة والمؤسسات الرسمية، واستبدال رئيس برئيس. كما أوصى بعدم نشر التهاني له من الشركات على عدة أعمدة في الصحف اليومية أو صفحات بأكملها، والصرف عليها من أموال الشعب. واستبشر الناس خيراً. ها هي سيرة الخلفاء تعود، وعادة تأليه الرؤساء يتم القضاء عليها. الرئيس بشر مثل باقي البشر. "كلكم لآدم وآدم من تراب". له كفن. ويوارى الثرى مثل كل الناس (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ). ولولا أن الرئيس نص في الدستور لما سُمي رئيساً ولما أُعطي هذا اللقب. فلا رئيس ولا مرؤوس. وكلاهما يقف مسؤولاً أمام ربه عن أداء الأمانة. والجامعة هي أكثر مؤسسات الدولة حساسية للثورة. فقد أنشئت جامعة وطنية في 1925 بعد ثورة 1919 بتبرعات الوطنيين أمراء وباشوات بنفس الروح التي أنشأ فيها طلعت حرب الاقتصاد الوطني. وكانت بؤرة للحركة الوطنية في الأربعينيات ضد الإنجليز والقصر. وفيها نشأت كل حركات المعارضة لنظم الاستبداد. وسقط منهم الشهداء الذين يرمز لهم النصب التذكاري على مدخل الجامعة الرئيسي. ومنها خرج الأدباء، نجيب محفوظ، والمفكرون، أحمد لطفي السيد وطه حسين، والعلماء، مشرفة، والقانونيون، السنهوري. ومازال يخرج منها عدة أجيال. ولما قرر الرئيس الجديد المنتخب زيارة الجامعة يوم السبت الماضي أغلقت الجامعة من الصباح إلى المساء. وخشي العمداء والوكلاء استمرار الكليات في نشاطها لعل ذلك يكون ضد مقتضيات الأمن. فيوم زيارة الرئيس للجامعة يكون عيداً وطنياً أو مولداً نبوياً أو عيداً قومياً تعطل فيه المصالح. وتغلق فيه المدارس وتعطل فيه الدراسة في الجامعات. وألغيت مناقشة الرسائل في الصباح وفي المساء خوفاً من حضور جمهور غريب على الجامعة يخل بالأمن ويهدد النظام مع أن الرئيس نفسه فتح معطفه وأظهر للناس أنه لا يرتدي قميصاً واقياً من الرصاص. والرئيس أستاذ جامعي هو جامعي أولاً ورئيس ثانياً. ولما شعر بعض العمداء والوكلاء أنه لا تعارض بين النشاط الجامعي في الصباح والمساء وبين زيارة الرئيس التي تتم ظهراً، وربما جاءهم الأمر بذلك من رئيس الجامعة أو من الجهات الأمنية سمحوا بمناقشة الرسائل بلا جمهور. وعلى أن يدخل الأساتذة وحدهم بلا عربات من الباب الخلفي، باب كلية التجارة، وليس من الباب الأمامي المخصص للرئيس وحاشيته. وتمت المناقشات وكأنها ميتم واستحالت فرحة الطالب وأهله بالمناقشة العلنية التي تنص عليها اللوائح الجامعية. وخلت القاعات من الورود والمصورين. فقد توجه الكل إلى قاعة الاحتفالات الكبرى حيث ينتظر قدوم الرئيس. وأطلقت المدافع تحية له. وتم تعلية مكبرات الصوت بأصوات الخطاب وهو ما يتنافى أيضاً مع الهدوء الواجب لقاعات الدرس. والخطاب مذاع على الهواء في كل القنوات والإذاعات المحلية والعالمية. وتم احتلال أروقة الجامعة من فرق الجيش والحرس الجمهوري بالخوذات والعصي وكأنهم في مواجهة مظاهرة للطلاب، لا فرق بين حماية رئيس داخل الجامعة أو خارجها. ومحرم على الجامعة أن يطأها رجال الأمن احتراماً لحرية الفكر وجلال العلم. تحولت الجامعة إلى ثكنة عسكرية. والمظاهرات في الميدان تطالب بعودة الجيش إلى الثكنات. والحجة في ذلك كله أمن الرئيس. فالعدل هو خير أمن. والظلم لا تحميه جيوش الأرض ولا جحافل السماء. هناك فرق بين استقبال الأستاذ الرئيس في الجامعة من الجامعيين بالأرواب الجامعية كما فعل قضاة المحكمة الدستورية العليا وزفة العروس بالطبل والمزمار وعقلية الزفة لا تدوم. أين هذا كله من تراثنا في معاملة الحكام الذي يتجاوز مماحكات الدولة الدينية والدولة المدنية. عندما كان يأتي رسول قيصر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيجد جماعة تجلس تحت شجرة في لباس واحد وزي واحد لا زيادة فيه لأحد على آخر ولا نقصان فيسأل: أيكم محمد؟ فيشيرون على واحد منهم. وكان الأعداء يتساءلون، ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ منتظرين أن يكون ملكاً من الملوك أو كسرى من الأكاسرة أو قيصراً من القياصرة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصف نفسه بأنه ليس إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد وقوله أيضاً "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم". الرئاسة وظيفة مثل غيرها، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل الأتربة فوق ظهره في حفر الخندق. الشعب لا يخلق رئيساً تعبيراً عن حاجته للرئاسة لأنه يثق بنفسه. والرئيس لا يخلق شعباً لأنه واحد من الناس. الشعب يصنع تاريخه بتوزيع المهام والمسؤوليات طبقاً للقدرات. والرئاسة إحداها. لا تميز لها على غيرها. بل هي أكثر المسؤوليات ثقلاً على النفس "والله لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها يا عمر لماذا لم تسو لها الطريق".