لعل الجانب المهم من كتاب دان سينور وساول سينجر، "بنـاء الدولـة... الخدمة العسكرية ودورها في تطوير الاقتصاد"، والذي نعرضه في المساحة التالية، هو بيانه التفصيلي للآليات التي تعتمدها إسرائيل في تأهيل مواطنيها لإكسابهم القدرة على الابتكار والإبداع والمنافسة في العالم، من خلال قانون مشجع، وبخلق أجواء منافسة بين الشبان، وإلحاقهم بالجيش الذي يعدهم للنجاح الشخصي والمهني... علاوة على الصناديق التمويلية لبدء الأعمال واستقطابها، والقدرة الفائقة على التنظيم والتسويق في عالم يسعى لامتلاك القدرة الفعلية على الإبداع والتسويق. ويتألف الكتاب (بصفحاته الثلاثمائة)، إضافة إلى المقدمة والخاتمة، من ثلاثة عشر فصلا موزعة على أربعة أجزاء تتناول "الدولة الصغيرة القادرة"، و"غرس ثقافة الابتكار"، و"البدايات"، وأخيراً "بلد ذو دوافع". لكن الكتاب ليس دراسة حول الاقتصاد ودور التقنيات الحديثة، بل هو -كما يقول المؤلفان في المقدمة- في جزء منه استكشاف، وفي جزء ثان محاجّة، وفي جزء ثالث رواية وقصة، وذلك وفق منهج "أقرب إلى الفسيفساء". إنه يتناول الكيفية التي أوجدت بها إسرائيل البيئة والظروف المؤدية لانطلاق الأعمال ونجاحها، عبر إجراءات كثيرة لاستقطاب الأعمال والاستثمارات من الخارج. لهذا فهو يضم قصص لقاءات كثيرة لجلب كبار المستثمرين والصناعيين في العالم للاستثمار في إسرائيل، وحول وضع القوانين والآليات الحافزة لقيام الإسرائيليين أنفسهم بإنشاء الشركات والأعمال النوعية التي تستقطب الممولين والمستثمرين. ولعل أكثر ما يلفت النظر في الكتاب، وهو يتحدث بإعجاب شديد عن تطور الاقتصاد الإسرائيلي، تركيزه على دور المؤسسة الحربية الإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالتجنيد الإجباري الذي يطبق على كل الإسرائيليين ويدخلهم معترك الحياة العسكرية، فيجعل منهم مقاتلين في الميدان العسكري، كما يجعل منهم مقاتلين في المجال المدني المتعلق بريادة الأعمال وتأسيس شركات مرتبطة بما تعلموه في الجيش. ووفقاً للكتاب فإن إسرائيل تمثِّل التركيز الأكبر للإبداع وريادة الأعمال في عالم اليوم، لاسيما من حيث نسبة ناتجها المحلي الإجمالي الموجهة للبحث والتطوير؛ وامتلاكها تكنولوجيا عسكرية متقدمة، مما يخلق قطاعاً تكنولوجياً مدنياً يكون المحرك الرئيـسي للاقتصاد. وهو تحول، يقول المؤلفان، جاء متأخراً عن الوقت الذي كان يريده الإسرائيليون. ومرة أخرى يتساءل الكتاب: ما الذي يجعل إسرائيل بهذه الدرجة من الابتكارية والريادية؟ قائلا إن التفسير الأوضح هو ذلك الذي يشير إلى الترابط المحكم بين جامعات عظيمة وشركات كبيرة ومنشآت وليدة والنظام الإيكولوجي الذي يربط بينها. علاوة على وجود مورِّدين نشطين، ومجمع للمواهب الهندسية، ورأس مال مجازف... وقبل هذا وبعده دور الجيش في ضخّ أموال البحث والتطوير في النظم المتطورة، ووحدات النخبة التكنولوجية، وانعكاسات ذلك الاستثمار الهائل -من حيث التقنيات والموارد البشرية معاً- على الاقتصاد المدني. لكن المؤلفين يتوقفان هنا قائلان إن تلك "الطبقة الخارجية" لا تفسر النجاح الإسرائيلي تفسيراً كاملاً؛ فسنغافورة لديها نظام تعليمي قوي، وكوريا لديها نظام للتجنيد الإلزامي، وفنلندا والسويد والدنمارك وأيرلندا، دول صغيرة نسبياً ولديها تكنولوجيا متطورة وبنى أساسية ممتازة؛ وقد سجلت كثيراً من براءات الاختراع، وحققت نمواً اقتصادياً قوياً. وبعض تلك الدول نما بشكل أسرع واستغرق وقتاً أطول؛ مقارنة بإسرائيل، وكانت مستويات المعيشة فيها أعلى، لكن أياً منها لم يولِّد عدداً يضاهي العدد الذي حققته إسرائيل من الشركات الوليدة، أو استقطب المستويات المرتفعة نفسها من استثمارات رأس المال المجازف. وفي هذا الخصوص يزعم المؤلفان أن ما تفتقر إليه تلك الدول هو الأسـاس الثـقافي المتكون من مزيـج غني من الجـرأة، وروح الفريق، والعـزلة، والترابط، والطموح إلى تحقيق الأهداف الكبيرة. فقد سجلت إسرائيل مرتبة عالية من حيث التكافؤ والرعاية والفردية، دون تعارض بين تلك الجوانب الثلاثة، بل في ظل انسجام ترسخه وتضيف إليه التجربة التي يمر بها كثير من الإسرائيليين في الجيش؛ فهناك يتعلمون أن على المرء إتمام مهمته من خلال العمل في إطار الفريق، حيث يحصل على أقلّ قدر من التوجيه، ويُنتظر منه الارتجال ولو تطلب الأمر خرق بعض القواعد! محمد ولد المنى -------- الكتاب: بناء الدولة... الخدمة العسكرية ودورها في تطوير الاقتصاد المؤلفان: دان سينور وساول سينجر الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2012