لا يكاد يرد ذكر أوروبا هذه الأيّام حتى ترد كلمة "تقشّف" التي يقدّمها البعض كعلاج شافٍ من الأمراض جميعاً، فيما يقدّمها البعض الآخر كشرّ مستطير. والحال أنّ الاتّجاه إلى تقليص دعم القطاع العامّ بات سمة قارية مشتركة وعلى نحو غير معهود منذ عقود مديدة. ذاك أنّ دول الاتّحاد الأوروبي السبع والعشرين مدعوّة إلى خفض العجز المالي لديها إلى 3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي للسنة الماليّة 2014– 2015، وهو ما يُعوّل الألمان خصوصاً على التقشّف من أجل التغلب عليه. ردّة الفعل اليونانية الغاضبة، والتي عبّرت عن غضبها بالتصويت لحركة "سيريزا" اليسارية الحديثة النشأة، ربّما كانت أبرز ردود الفعل السياسية الصاخبة حتى الآن. كذلك لا يُستهان بالاعتراض الفرنسي الذي يعبّر عنه سيّد الإليزيه الجديد فرانسوا هولاند، الذي خالف المبدأ الألماني وأكّد مراراً، في حملته الانتخابية وبعد فوزه، أنّ التقشّف ليس العلاج الأوحد للأزمة الاقتصادية المستفحلة. كذلك يمكن أن نتوقّع ظهور علامات غضب أخرى في إيطاليا وإسبانيا، وهما بلدان يئنّان أيضاً تحت وطأة الأزمة ومُطالَبان بتقشّف صارم. لكنْ ماذا عن بريطانيا، صاحبة الاقتصاد الأوروبي الثالث حجماً، والتي هي خارج نطاق "اليورو"؟ واقع الحال أنّه إذا بدا أنّ أوروبا كلّها تواجه التقشّف، فإنّ لندن من العواصم التي قطعت شوطاً بعيداً على الطريق هذا. فمنذ وصول الائتلاف الجديد بين حزبي "المحافظين" و"الديموقراطيين الليبراليين" إلى 10 داوننج ستريت، في 2010، تتالت خبطات عصر الإنفاق المؤلم. وعلى الضدّ من اللفظية اليسارية التي اعتمدها "الديموقراطيون" الليبراليون في السنوات الأخيرة، سريعاً ما أعلن الائتلاف الحاكم عن برامج خفض غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. صحيح أنّ البريطانيين ميّالون إلى المحافظة تقليدياً، وأنّ استجاباتهم للتحديات لا تتّخذ طابعاً انفجارياً. مع ذلك فإنّ للصبر حدوداً. فقد قُدّر المبلغ الذي ينبغي توفيره في السنوات الأربع التي تنتهي في 2014– 2015 بـ83 بليون جنيه استرليني (125 بليون دولار)، وهذا ما يستدعي التخلّص من 490 ألف وظيفة من وظائف القطاع العامّ. أمّا المؤسّسات والمكاتب الحكومية فسوف تتعرّض، بدورها، لتقليص في موازناتها يعادل نسبة خُمس الإجمالي. كذلك قُرّر رفع سنّ التقاعد من 65 سنة إلى 66 سنة. ويبلغ عجز الموازنة في بريطانيا نسبة 10 في المئة من عموم الناتج المحلي، بينما تبلغ البطالة، بحسب الأرقام الرسمية، ما مجموعه مليونان وستمائة وسبعون ألف شخص، أي نسبة 8،4 في المئة. وهذا أعلى معدّل تعرفه بريطانيا منذ 1994، حين كان المحافظ "جون ميجور" رئيساً للحكومة. والتذكير بميجور يبقى نذير شؤم لأنّ عهده كان عهد الأزمة التي عصفت بـ"الثاتشرية" بعد ثاتشر، ومن ثمّ التمهيد لعودة حزب "العمّال"، على ما حصل فعلاً في 1997. ثمّ إنّ الضغط الاجتماعي لم يقف عند هذا الحدّ. فبحسب موازنة 2012 كما أعلنها وزير الخزانة "جورج أوسبورن"، أُعلنت إجراءات عديدة أخرى لخفض الضرائب بحجّة تشجيع الاستثمار واجتذاب الرساميل. هكذا أعفي الأكثر غنى من نسبة 5 في المئة من الضرائب التي يدفعونها. لكنْ من ناحية أخرى، تمّ خفض ما يتقاضاه المتقاعدون المسنّون من عوائد الضرائب، التي دفعوها على دخولهم، كما خُفّضت المعونات التي يستفيد منها الأطفال مقابل رفع الضرائب على السجائر وعلى بعض السلع الأخرى. وقد يقال بحقّ إنّ الشعوب ينبغي أن تتحمّل مسؤوليتها عمّا يحل بها من جرّاء سلوك سلكته. لكنّ ما لا يصح بتاتاً، إنسانيّاً وأخلاقيّاً واقتصاديّاً في آن واحد، تحميل الفقراء ومتوسّطي الحال وحدهم أكلاف الأزمات واعتماد نهج في المعالجة عديم القلب وضعيف الوجدان. والراهن أنّ الغضب الشعبي حيال هذه السياسات قد عبّر عن نفسه في السابق تعابير ملحوظة. فأكثر من ربع مليون شخص سبق أن تظاهروا احتجاجاً في لندن في مارس 2011، وكانت تلك أكبر تظاهرة تعرفها العاصمة البريطانية منذ تظاهرة الاحتجاج على المشاركة في حرب العراق عام 2003. وفي أواخر 2011 أقيمت مخيّمات الاحتجاج على السياسات الحكومية في الكثير من مدن بريطانيا، بما فيها لندن، مواكِبة للتحرّك العالمي الذي بدأ بشعار "احتلّوا وول ستريت" في الولايات المتحدة. صحيح أنّنا لسنا في الثلاثينيات، وأنّ الثورات والحلول القصوى، يسارية أو يمينية، مستبعدة عموماً، لا سيّما في بلد كبريطانيا. فحتى اليونان ذات التقاليد السياسية الأضعف بلا قياس، انضبط ردّها بقنوات حزبية وانتخابية. لكنْ، مع هذا، لا بدّ للتحديات أن تعكس نفسها على التركيب السياسي الحاكم في بريطانيا. وهنا يُرجّح أن يكون "الديمقراطيون" والليبراليون أوّل الضحايا، بفعل الفارق الهائل بين لغتهم الشعبوية اليسارية التي سبقت مشاركتهم في الائتلاف وبين موافقتهم الراهنة على السياسات المذكورة، ما أظهرهم مجرّد انتهازيين منافقين. وفي هذه الحال لا بدّ أن يتصدّع الائتلاف القائم، علماً بأنّ ضعف المعارضة الجديدة لحزب العمّال، خصوصاً قائده "إد ميليباند"، تعيق احتمالاً كهذا أو تؤخّر حصوله. أبعد من ذلك هو التحوّل الانتكاسي الذي تتعرّض له الطبقة الوسطى البريطانية الأشدّ تأثراً بالخفوضات في مجال التعليم وسائر الخدمات. فالمعروف تقليديّاً أنّ المجتمع البريطاني عاش أسير الاستقطاب بين الطبقتين القديمتين الأرستوقراطية والعمالية. وهذا ما لم يتغيّر إلاّ في الثمانينات، إبّان حقبة الصعود والنجاح "الثاتشريّين"، بحيث توسّعت الطبقة الوسطى نوعيّاً كما صار لها صوتها المسموع في مجالات التعبير والإعلام والثقافة. وفي عهد توني بلير، لا سيّما سنواته الخمس الأولى، تعزّزت تلك الوجهة من خلال إجراءات وقوانين عملت على مأسسة التحوّل "الثاتشري" وعلى تكريسه. بيد أنّ إجراءات التقشّف تهدّد، على هذه الجبهة، بإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء. وهنا يبدو التساؤل شرعيّاً تماماً حول قدرة بريطانيا على التحمّل وقدرة طبقتها الوسطى على الاحتمال؟!