يتساءل القطريون اليوم عن سبب اتجاه جامعتهم نحو فرض الدراسة التخصصية فيها باللغة الإنجليزية؟ ولماذا تتحول جامعة حكومية في دولة عربية إلى هذا التوجه دون استيعاب فعلي لحقيقة دور اللغة العربية في بناء الحضارة وتحقيق الرقي؟ لم تلزم الصين أحداً من طلابها بضرورة دراسة اللغة الإنجليزية، وهي اليوم عملاق اقتصادي، حيث لا يستطيع أحد تفسير المعجزة الصينية دون أن يذكر العوامل الرئيسية فيها، وأهمها أن الشعب تلقى تعليماً جيداً يزرع روحاً فخورة بثقافتها ولغتها، فصارت البلاد نموذجاً يحتذى به في ذكائها الاقتصادي الذي أبهر العالم بأسره. وليست جامعة قطر وحدها هي التي أقدمت على ذلك الخيار فيما يتعلق باعتماد اللغة الإنجليزية وتبنيها كلغة للتدريس، بل هناك أيضاً جامعات خليجية أخرى عريقة استطاعت بمرور الزمن تحقيق إنجازات وصارت مخرجاتها موضع ترحيب في سوق العمل، وذلك لكفاءة خريجيها وقدرتهم على التعلم والتأقلم. لكن من المهم للجامعات أن تكون منارات فكرية، فالجامعة لا تدرس العلم فقط، بل تعلِّم الفكر وتُكسِب مهارةَ التعاطي مع ظروف الحياة المختلفة. إنها مرحلة عمرية وفرصة حياتية لا تعوضها أي تجربة أخرى مهما كانت. فالفترة التي يعيشها طالب الجامعة هي فتره تشكل أفكاره ومعتقداته حول الحياة والفكر والواقع، وهي فرصة لزرع الأفكار النّيرة في أرض خصبة هي عقل الطالب. لا أحد يشكك بأهمية اللغة الإنجليزية، لكن فيما يتعلق بهذا الموضوع، يبدو أن البعض قد وقع في شيء من التسطيح، فصارت المفاهيم هزيلة لحد مخيف، وتحولت فعلاً بعض الجامعات إلى شركات للتوظيف، لا تضع نصب عينيها غير احتياجات السوق، متغاضيةً عما يفيد عقل الطالب ويوسّع مداركه الفكرية وذوقه الفني. والأخطر من ذلك أن تهميش اللغة العربية وتحويلها إلى مجرد لغة تواصل يومي داخل نطاق الأسرة وبين بعض الأصدقاء، سيصل بها إلى هاوية تدفع ثمنها أجيال وأجيال. ليست هناك حضارة على مر التاريخ قامت على أكتاف لغة أخرى غير اللغة الأم للشعب، بل إن التعلق بلغة أجنبية يصيب القوام الاجتماعي بالتراجع والوقوف لدى حواف العلم فلا يستطيع التقدم ولا التطور، وكأن ثمة من يحاول القضاء على كل الفرص الثمينة والمطلوبة. ولعل المتابع لشبكات التواصل الاجتماعي في هذه المرحلة يلاحظ الأخطاء المخيفة التي يقع فيها الطلاب والخريجون، وربما الأساتذة أيضاً، سواء أكانت أخطاء نحوية أو إملائية أو صرفية... وهذا يعني أنه إذا كانت مخرجات التعليم بهذا المستوى، فلنسأل اللطف للأجيال القادمة! اللغة العربية تحتاج إلى خطة إنقاذ توازي الاهتمام باللغة الإنجليزية، وإلى تعبئة الأجيال حول هذا الموضوع من أجل تحبيب العربية إليها وتقوية رابطة التعلق لدى النشء بلغته الأم وبقواعدها وجمالياتها المبهرة. إن البعض من خريجي اليوم فقدوا لغتهم ولم يتعمقوا في اللغة الأخرى ليدركوا جمالها أيضاً، إذ نادراً ما يتجاوزون القشور إلى العمق. لذلك فإنه من الأهمية بمكان أن تكون للغة العربية مكانتها المحفوظة وهيبتها في النظام التعليمي، وذلك حين يقدرها أهلها ويتعلمونها بحب وبذات المستوى من الاهتمام الذي تناله اللغة الأخرى. فالحفاظ على اللغة العربية ليس ترفاً بقدر ما هو قضية أمن قومي في غاية الأهمية.