قصة التجار في الإمارات تمثل مفصلاً رئيساً من سيرة تاريخ هذا الوطن وتطوره، فهذا البلد عرف بنشاطه التجاري منذ القدم، والفرص التي استثمرها هؤلاء التجار وشطارتهم وأيضاً الإمبراطوريات المالية التي صنعوها، حكاية تروى. فالتجار الأوائل، أو الكبار كما نسميهم، ينطبق عليهم الوصف بأنهم نحتوا في الصخر، وما تحمله هذه الكناية من ضروب التعب والشقاء. عانوا حتى حققوا ثرواتهم، شربوا ماءَ البحر وهم يبحثون عن اللؤلؤ أو الذهب الذي كانوا يهرّبونه ويخفونه في تجارتهم البحرية، وتغرّبوا حتى لحق بهم الهرم وأوجاع الجسد والزمن بعيداً عن أرضهم وأهليهم، وحملوا الأثقال على ظهورهم ولفحتهم سموم القيظ وواجهتهم عواصفٌ وطاردتهم عصابات. والثروة التي تولّدها المعاناة تكون عزيزة على صاحبها، وقد نصمه نحن الذين ننظر إليه بالبخل، بينما فلسفته أنه تعب في الوصول إليها فلا ينبغي له تبذيرها، إنه أكثر خوفاً على مستقبل هذه الثروة. لكن أولئك التجار الكبار الذين ضحّوا واجتهدوا كثيراً حتى يصبحوا تجاراً، كانت لمعظمهم أدوار وطنية ومبادرات مجتمعية، حيث عملوا -والتاريخ يشهد لأفعالهم- على دعم كيان الدولة في بداياتها وتنمية اقتصادها، وبذلوا الكثير من أجل أهلهم ورفعة مجتمعهم. ووصل الأمر إلى أن هناك من كان يدعم ميزانية الدولة، وهناك من كان يعِين الحاكم ويمدُّه بالمال في حالات العسرة، وهناك من كان يتكفل باحتياجات جيرانه. كان ذلك في البدايات عندما كانت الحياة شحيحة والآمال كبيرة. وعندما نهضت الدولة وعمّ الخير، لم تنسَ القيادةُ أدوار هؤلاء فأكرمتهم، وسهّلت لهم، وأعطتهم الكثير، وكبُرت وتوسعت شراكاتهم وتجارتهم، واستمر الكثير منهم يحافظ على الواجب، فلم ينس دورَه في المساهمة بتنمية المجتمع وفعل الخير، ومد أيادي العطاء للمحتاج. وعندما يأتي ذكر التجار والعمل المجتمعي والجوانب الإنسانية، يذكر في المقدمة سلطان بن علي العويس رحمه الله، هذا الرجل الذي كان يضرب به المثل في زمن الشدة، فيقول "الشوّاب" عندما يَذكُر أو يتباهى أحدٌ أمامهم بثروته، أو حتى في التعبير عن حلم الغنى، يقولون: يحسب عنده "مالية العويس"! كان بسيطاً في تعامله ومظهره وأسلوب حياته، وقد أعطى لبلده بسخاء ومحبة، عطاءَ من لا يخشى الفقرَ. فهذا تاجر لا تُحصى أعماله الخيرية: بنى مستشفيات وأقام سدوداً، وعمّر عشرات المساجد، ووصل خيره لكل الإمارات، وقدّم أهم مشروع ثقافي عربي مستقل. وخلال فترة نهاية الستينيات وفي السنوات الأولى لدولة الاتحاد تبنى في "الذيد"، وهي آنذاك منطقة صحراوية بدوية، تعليم وتنمية أبنائها، فكان يصرف من ماله مكافآت للأساتذة المبتعثين للتدريس، ويوزع الأغذية والملابس على الطلاب المنتسبين، ويرسل "شرهات" إلى أهالي الطلاب ليرغّبهم في تعليم أطفالهم. اعتنى كذلك بفلج الماء الذي كان يسقي نخيلهم والذي كان مصدر رزقهم لسنوات طويلة، وشيّد لهم أكبر مسجدين في المنطقة الوسطى... كل هذا عمله في زمن عظمت عنده الحاجات وشحت فيه الإمكانيات. وتجار مثل جمعة الماجد الذي سخّر ماله وشخصه لخدمة العلم والثقافة وتنمية مجتمعه، كمشروع المدارس الأهلية الخيرية، وكلية الدراسات الإسلامية والعربية، ومركز الثقافة والتراث، إلى أعظم عمل سيذكر له هو ومجموعة من تجار دبي عندما أسسوا ودعموا جمعية "بيت الخير" التي رفعت شعار "من الإمارات وإلى الإمارات"، والتي تصرف مساعدات شهرية لأكثر من خمسة آلاف أسرة محتاجة ومتعففة. كذلك محمد إبراهيم عبيد الله الذي بنى مستشفى في رأس الخيمة، وعبدالعزيز خانصاحب الذي جهز مساكن شعبية في عدد من الإمارات، وأسس شركة وطنية هدفها تقديم الأعمال الخيرية لأبناء الدولة، ومحمد جمعة النابودة وعبد الجليل الفهيم يرحمه الله... وغيرهم. وقبل أيام كانت هناك صور وأخبار لمجموعة من التجار يوقعون مع معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التعليم العالي والبحث العلمي اتفاقيات منفردة لتنمية الصندوق الوقفي لجامعة زايد ودعم مشاريعها في مجالات البحث العلمي، ومواكبة المستجدات التقنية، وأيضاً خدمة المجتمع. الشيخ مسلم بن حم العامري قدم كرسياً باسم والده، واتفاقية مع سلطان بن راشد الظاهري، وأخرى مع معالي حميد بن ناصر العويس، ومع عبيد الحلو، وكرسي باسم المرحوم أحمد صديقي قدمه ابنه عبد الحميد. وكان أول المبادرين في هذا المشروع المجتمعي والعلمي الرائد رجل الأعمال فرج بن حمودة، فتبنى دعم كرسي "بن حمودة في الصحة العامة". وأيضاً تم تدشين مركز "خلف الحبتور" لمصادر التكنولوجيا المساعدة لخدمة الطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة بالجامعة. وقد كان لعلاقات وزير التعليم العالي ورئيس جامعة زايد معالي الشيخ نهيان بن مبارك وقربه من مختلف شرائح المجتمع، دوراً مهماً لحث هذه النخبة الخيّرة على المساهمة في هذا المشروع المجتمعي المميز. وهناك العديد من التجار الذين ينفقون ويخدمون بلدهم ويساهمون في الأعمال الخيرية، وقوائم صندوق الزكاة أو الأعراس الجماعية لصندوق الزواج أو حملات الهلال الأحمر والجمعيات الخيرية بالدولة تشهد لهم. رعيل التجار القدامى بذلوا وما زال الأحياء منهم يبذلون، وقد حفر بعضهم بصْمته وترك ذكره وفعله للخير يدعو له في كل الأزمنة وعند مختلف الأجيال. لكن الإشكالية هي في الجيل الجديد من تجار الإمارات، والذين قفزوا فجأة إلى مراتب عليا إقليمياً ودولياً، واحتلوا مراكز متقدمة في قوائم أغنى أغنياء العالم. هؤلاء استفادوا من الفرص التي لاحت في سنوات ازدهار العقار والأسهم والمضاربات، والشركات المساهمة، وأقد أثرى بعضهم من وراء مشاريع معينة، وأصبحوا نجوماً في عالم المال، نقرأ أرقام ثرواتهم في الإعلام، لكن أين هم من مشاريع خدمة المجتمع، وماذا قدموا للوطن؟ هناك مجموعة منهم لها مبادرات خيرية ومجتمعية، لكن كم تمثل نسبة هؤلاء في قائمة التجار الجدد؟ إنها صغيرة لا تذكر! ثروات أولئك التجار الجدد ومجدهم، كل ذلك قد يذهب سريعاً كما جاء سريعاً، فلا يبقى للتاجر إلا عمل الخير، وصِيتُه في خدمة مجتمعه وبلده. تذكروا سلطان العويس وأمثاله من الكبار وأفعالهم في خدمة هذا الوطن.