ليس السؤال هنا خاصاً بالتطورات الأخيرة في السودان، واشتعال الموقف في أكثر من مدينة سودانية، بدرجة أو أخرى من الأُبيّض حتى كسلا، لأن السؤال في الواقع يتعلق بالمصائر في أكثر من عاصمة عربية، ويدخل السودان الآن ضمنها بسبب هذا الاشتعال الأخير. وفي تقديري أن السودان لا يدخل حالة "الربيع العربي"، كما يتوقع الكثيرون، ليس لأي إحباط من توافر القدرة عند عناصر الموقف، فذلك متوافر دائماً في السودان بتجارب رائدة منذ أكتوبر 1964 حتى أبريل 1985، وحتى حشد استقبال "جون قرنق" في الخرطوم 2005 إشارة إلى إمكانيات هائلة للتوحد في مستقبل مختلف. لكن الحكم السوداني لا يبدو راغباً إلا في مركزية السلطة، وهو الذي أتيح له أيضاً فرصة حشد القوى السياسية المتنوعة من حوله قبل وبعد اتفاقيات "نيفاشا" طلباً لحكم جبهوي عريض، وحين تصعب التفاوضات السياسية والاجتماعية على مثل هذا الحكم، فإن كافة التوقعات لا تستطيع إلا القول بأحد سيناريوهات الاضطراب أو الانتفاض! ولا نستبق نحن هنا الحديث عن نموذج الانتفاضة، لأنه ثبت لنا جميعاً أن العالم العربي لا يعيش "ربيعاً" واحداً وإنْ كان يسهل أن يكون "خريفاً" واحداً. فبعد قدر من تشابه الحدث في تونس ومصر، لا نستطيع القول بأن ثمة تشابهاً بين ظروف أي من التطورات الأخرى. ولذا يطمئن الرئيس السوداني إلى أن السودان لا يكرر ما يجري الحديث به عن "الربيع العربي". ويمكن للباحث أن يستفيد أكثر لو أنه درس حالات "الخريف" التي اعترت الثورات عقب تطورات 1964 أو 1985، أو 2005، وكيف لم تنجح القوى الفاعلة أن تنهض بالواقع السوداني في طريق جديد يحقق الديمقراطية والرخاء في آن واحد. الحالة السودانية ملغومة منذ بعض الوقت بمعوقات مألوفة في السودان رغم تبسيطات الرئيس عمر البشير، أولها استهانة الحكم بما يدور حوله سواء قبل ثورة 1985 مع الرئيس الراحل نميري أو في 1989 مع المثقف السياسي صادق المهدي. ففي الحالتين القريبتين، كان الشارع يعج بالاعتراض، وتناقضات الحكم صارخة، ومناورات المحيطين بـ"القصر" وهمية أو متعجرفة، ولذا لم يتحمل "القصر" إلا دفع العجلة من حوله من قبل القوى صاحبة الحق في مستقبل مختلف، سواء سميت الحديثة، أو من الطبقة التجارية الجديدة أو المهمشين ومن تم إقصاؤهم في قلب وأطراف العاصمة ...كل ذلك يتكرر الآن، ولا نتوقع أن يصدق عليهم وصف "شذاذ الآفاق" من قبل الرئيس، كما لا نتوقع أن تجري ألسنة عدد من كتاب النظام بالحديث عن المؤامرات الخارجية لأن هذا هو أقصر طريق لسقوط النظم عبر التطورات الداخلية. ومن يتابع مواقف القوى السياسية المتنوعة في السودان، يدرك مأزق الحكم بحق إذا لم يقدم جديداً بعد"انفصال" دولة الجنوب ورغبة الجميع في التجديد...وقد رأينا أشارات الرفض لا "التفاوض" في خطاب الجميع من السادة " فاروق أبو عيسى" إلى حسن الترابي ، إلى صياغات الصادق المهدي. وهم عناصر "التفاوض" الممكنة سلمياً. ولا نريد القول إن عناصر الضغط خارج إطار "التفاوضية" متوافرة بدورها وبألسنة مختلفة عبر أصوات تتحدث عن "الحزام الأسود" ممتداً من جنوب كردفان إلى النيل الأزرق، وهو تطوير يزحف "بالتنابذ" تارة وبالثورية تارة أخرى! لكنها لا تجوز من خلصاء أقوياء للنظام والفكر السياسي تبعه! ولا بد أن نتوقع تقاطع ذلك مع الدعوة المتطورة للعمل المسلح عند الجبهة الثورية، أو أطراف من الجبهة العريضة ...الخ وفي ذلك حشد للتشتت لا الوفاق، واقتراب من "الخريف" العربي، لا ربيعه! ما زال من غير المفهوم ألا يسلم الحكم في السودان بضرورة البحث عن صيغة جامعة بعد قيام "دولة الجنوب" مهما كانت عقبات التفاوض على القضايا المعلقة. وقد دهشت أن تكون مسألة الحدود، على رأس مشاكل تم معالجتها لمدة ست سنوات في نيروبي وست عواصم أخرى في القارة وخارجها، وسيأتي أبسط من ذلك بالطبع قضايا جنسية أبناء بلد واحد يتوزعون في أقاليمه، ناهيك عن قضايا الحريات الأربع...الخ أما "ثالثة الأثافي" كما يقول العرب، فهي رحلة الشتاء والصيف لأبناء "المسيرية" في رحاب مملكة "الدينكا" أو ولاية الوحدة! فإذا كانت هذه هي قائمة بنود جدول الأعمال مع الجنوبيين، فكيف سنتصور حال القوى الثائرة في أنحاء الجمهورية؟ لقد حسمت قوى تجارية وإسلامية الموقف المركزي يوماً ما في عام 1989 بالانقلاب السهل في يونيو من ذاك العام، لكن يونيو 2012 يبدو مختلفاً، فالقوى السياسية المتنوعة باتت غير راغبة في حوار مركزي، وأصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى مرتبكين في انتكاسة الدخل من البترول الذي سكبوا كل ألبانه في أقصر وقت من النزاع مع الجنوب، ومن ثم يعيشون لحظة سقوط اقتصادي ومعنوي لا يشجع أي طرف على الاندفاع مع الحكم بمشروع جديد لا يملكونه. من هنا لا تبقى إلا "الدولة الأمنية" التي قد تضر بعنف، فتخسر الكثير، وتتحول الخرطوم إلى القاهرة القديمة أو دمشق جديدة ليجري الحديث عن "ربيع "،"خريف"...والدولة الأمنية هنا ليست مجرد إجراءات اعتقال لطلاب الجامعة أو عناصر من الأحزاب القلقة، ولكنها أصبحت في مأزق أمن السودان كله لنفس أسباب اضطراب الموقف. فلا يدري أحد مصير "السلاح الليبي" بين حكم ومتمردين في غرب السودان، بل وطريقه المفتوح في شرقي البلاد لخطط تمتد شمال البحر الأحمر قد تقضي على مصائر كثيرة بين السودان وبلدان الشرق الأوسط، والوضع مرتبك أيضاً في ترتيب العلاقة مع مصر بين مشروعات "حوض النيل" وضرورة التوافق في الموقف من "أزمة السدود" هنا وهنالك على النيل، ومشروعات الشرق الأوسط الإسلامي بين دول خليجية ودول جوار لم تتحدد أساليب التعامل معها بعد في القاهرة نفسها وخارجها. ومن كل موقع تخرج الرسائل إلى الخرطوم، فثمة "فيدرالية" مطروحة في ليبيا تلوح لتكرار "نموذجها الإسلامي" في مناطق من "السودان الإسلامي"، وثمة تلويح بالمشروع المشترك مع "إثيوبيا" يلوح بتحالفات في شرق أفريقيا أو القرن الأفريقي لا يتمتع فيه السودان" بالقدر المعلن" وإنما ستديرها مصالح في الجنوب وكينيا بمركز متميز لإثيوبيا، بل إن المشروع البترولي الأميركي للصحراء الأفريقية الكبرى قد تجعل "تشاد" تطل على الموقف من جديد من غرب القارة، ولا نعرف هل سيكسبها الجنوبيون (بالتعاون مع فرنسا) أم يكسبها الشمال بالتعاون مع الخليجيين؟! معنى ذلك أن النظام السوداني أو بالأحرى "دولة السودان" في حاجة إلى دائرة حوار وطني ديمقراطي حقيقي تبحث خلاله قوى حقيقية كل هذه المصائر بصيغة قابلة للتفاعل، مع الداخل ومع المنطقة كلها. وهنا لا يسهل الحديث بهذه الطريقة مع "شذاذ آفاق" في الشارع السوداني أو قواه السياسية، لأن الحكم قبل أكثر من مرة خطط أميركية، وحتى أفريقية لا تجعل ثمة جديد فيما يجري من تفاعلات. لأنه ليس أمامنا إلا مشروع واحد الآن يجرى بحثه وهو المشروع الشرق أوسطي، إسلامياً أو عربياً. والمشروع ممتد بطبعه إلى دول عديدة ذات اتصال بالخرطوم أيضاً، وإن كان ثمة فرق ملحوظ بين بعده العربي وبعده الأفريقي، وما لم يتدارك السودان موقفه في هذه المشروعات بالخروج من مركزية الحكم الأمنية إلى ساحات التفاوض الاجتماعي والسياسي، فسوف نظل نلهث وراء افتراضات "الربيع" و"الخريف"، ولابد أن يعرف معظم الكتاب العرب أن "سخانة " صيف الخرطوم تأتي من طبيعة أجوائه هو ذاته وتعقيداتها، وليست مثل الأجواء التقليدية في العواصم العربية، وأن "الخريف" السوداني مختلف بدوره مرتبطاً أحياناً كثيرة برزق الأمطار! لذا قلنا إن "السودان" حالة خاصة.