منذ أيام أكمل الدستور المغربي الجديد سنته الأولى، ففي يوم الجمعة الأول من يوليو سنة 2011 توجه أكثر من 70 في المائة من الناخبين المغاربة صغارهم وكبارهم، نساؤهم ورجالهم إلى صناديق الاقتراع ليقولوا كلمتهم في حق الدستور الجديد للمملكة المغربية، والذي سميناه بدستور الجيل الرابع، وبالفعل حصل الدستور الذي كتبته لجنة من ذوي التجربة والاختصاص ومن مشارب مجتمعية وسياسية مختلفة، على نسبة كبيرة تجاوزت السبعين في المائة حيث إن الأغلبية من الناس قالت نعم للتغيير في ظل الاستقرار... في تلك الفترة سمينا المرحلة الراهنة بميلاد الملكية الثانية التي استطاعت بحكم فراستها واستباقها للأحداث تجاوز تذبذبات "الربيع العربي"، التي وصلت إلى المغرب لتعلن هي عن إصلاح الإصلاح متجاوزة سقف مطالب الأحزاب السياسية، ولتحدث تغييرات جوهرية وعلى رأسها تعيين الحكومة وجوباً من الحزب، الذي حصل على عدد أكبر من الأصوات، وحصل بعد ذلك ربيع إسلامي تحالف هو بدوره مع أحزاب يمينية تقليدية وأخرى يسارية... وإذا استقصينا ميثاقهم الوجودي نجد أن بين الحزب الإسلامي (حزب العدالة والتنمية) والحزب اليساري (حزب التقدم والاشتراكية) بون شاسع من حيث الإيديولوجيا والفكر والتنظير ووسائل الإقناع ونوعية الأتباع إلى غير ذلك... ولكن من خلال هذا المثال الأخير ومقارنة مع الدول العربية المجاورة، يمكن أن نستحضر هنا خمسة دروس رئيسية: -أن النضج السياسي ضرورة من ضروريات الحكم، فالشعارات المدوية التي توجه لحشد الجماهير وراء مراجع مذهبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، لا يمكن أن تثبت أركان النظام أو أركان الحكم، بل ستعيش تلك الحكومة فوق بركان نائم يمكن أن يستيقظ في أي وقت ويأتي على الأخضر واليابس... فإذا أجزنا صحة تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الاستقلال (التشابه في الإيديولوجيا مثلاً، فحزب الاستقلال حزب محافظ)، فإن وجود حزب التقدم والاشتراكية في حكومة بن كيران دليل على تنازل سياسوي محمود من الجانبين، وأحيي هنا رغبة الرئيس المصري المنتخب الدكتور محمد مرسي تعيين رئيس وزراء مستقل لقيادة سفينة المرحلة، وطمأنني كلامه منذ أيام خلال لقائه برؤساء تحرير الصحف الحكومية والحزبية في مصر أن "أخونة الدولة مستحيلة"، قبل أن يضيف أن البلاد ستحتفظ بطابعها الوطني دون أن تصطبغ بصفة فصيل سياسي معين، كما أضاف أن "تقديم ضمانات للمسيحيين غير منطقي لأنهم أصحاب البلد لذا ينبغي ألا يشعروا بالقلق وأن الضمانة لا ينبغي أن تكون لفئة دون غيرها، بل تتعدد من أننا جميعاً أبناء متساوون في وطن واحد"، وهذا كلام ينم عن نضج سياسي يجب أن تتبعه أفعال حقيقية وتعميم هذا النضج على الفاعلين في المجال السياسي العام سواء كانوا من المجلس العسكري أو من "الإخوان" أو من كل الأحزاب السياسية. -الرجوع بالمجتمع إلى الماضي والنبش في الملفات القديمة فقط لخلق الشعبوية وحشد الجماهير لا يِؤتي أكله دائماً... قد يؤتي أكله مثلاً عندما تتصالح الدولة مع مواطنيها وتقوم بجبر الضرر كما وقع في أفريقيا السوداء أو في المغرب في السنوات الأولى من وصول العاهل المغربي إلى مقاليد الحكم، بحيث أعطيت الكلمة لمن كان ضحية لسنوات الرصاص في سبعينيات القرن الماضي وتعويض المتضررين عن ذلك، وهذا ما يسمى في أدبيات العلوم السياسية بالعدالة الانتقالية... تلك مسألة محمودة تقوي المواطنة وتجعل الإنسان يشعر بحنان ودفء البلد الحاضن. أما أن يأتي كل وزير أو أي موظف سامي وينبش في ملفات الحكومات والمسؤولين السابقين، ويعرون في بعض الأحيان نصف الفاعلين في المجال العام، فهي طامة كبرى ومصيبة آزفة تخلق بلبلة في المجتمع وموجات من ردات الفعل المريرة قد تؤدي ببعض أجهزة الدولة النافدة إلى محاربة أجهزة أخرى في حرب ضروس وأخرى غير معلنة ولزمن طويل، فما ذنب المئات من رجالات الدولة المقتدرين والأجلاء ذوي الكفاءات والخبرة في التسيير في تونس ومصر إذا عملوا في مؤسسات الدولة زمن مبارك وبن علي؟ وكم هو معبر ما قاله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "اذكروا موتاكم بخير"... هذه المرحلة انتقالية، وهذا زمن جديد يجب على من حمله القدر أمانة المسؤولية في ما بعد "الربيع العربي" النظر إلى الأمام... فنظر السائق الدائم في المرآة الخلفية للسيارة، سيجعله يدخل في حوادث قد تودي بحياته وحياة من معه. - يجب التشبع بالبراجماتية والحزم في القرارات المصيرية والابتعاد عن الشعبوية، وعن سياسات مؤقتة يؤدي ثمنها البلاد والعباد، وهناك قرارات رشيدة أخذتها حكومة عبد الإله بن كيران يمكن أن نشيد بها كالبدء في إصلاح نظام المقاصة وتعميم المباراة للجميع للولوج إلى الوظائف العمومية، إذ كيف يعقل توظيف من شارك في مظاهرة بجانب البرلمان ونسيان من لم يشارك فيها، فشراء السلم الاجتماعي بهذا الشكل أمر مخالف للعقل والمعقول. -يجب أخد الحيطة والحذر عند أخذ القرارات الاقتصادية، لأن المرحلة صعبة للجميع وعلى البلدان أن تتجنب مرحلة أزمة الثقة، فدور الحكومات يجب أن يكون هو طمأنة الرأسمال الوطني وتحفيز الأموال الأجنبية لجلب الاستثمار وخلق فرص الشغل وتحقيق التنمية... لم أكن راضياً عن قرار الحكومة المغربية في البداية اقتطاع الضرائب من الحسابات البنكية... فسياسة العصا والجزرة في المجال المالي (بالتطهير تارة وبالإعفاء الضريبي تارة أخرى) تؤدي إلى نتائج تكون عكس المتوقع. -وأخيراً أن الثقة هي قاعدة انتعاش الاقتصاد وقاعدة انتعاش السياسة وقاعدة دوام الدولة والمؤسسات.