انطلقت حوارات "موسم أصيلة" لهذه السنة بندوة متميزة حول موضوع "مياه المتوسط: حراك في الجنوب وأزمة في الشمال". ويلخص هذا العنوان الذي اختاره بعناية صديقنا الألمعي الوزير "محمد بن عيسى" الوضع المشحون في ضفتي المتوسط. وقد اتفق طرفا الحوار، وهما من أبرز وأهم الشخصيات الفكرية والسياسية الأوروبية والعربية على أن تجارب الشراكة المؤسسية بين المجالين قد انتكست في الماضي، لأسباب لا يتسع المقام لتفصيلها، كما اتفقا على أن مشروع الاتحاد المتوسطي لا يزال مطلباً استراتيجياً حيوياً بالنسبة للجهتين. بيد أن مستجدات "الربيع العربي" والأزمة الاقتصادية والمالية الأوروبية، كان لا بد من أن تستأثر بحوارات أصيلة. وقد تبين لي في مداخلتي بالندوة أن الاهتمامات المتوسطية الراهنة تتمحور حول مفهومين رئيسيين تناولتهما من خلفيات فلسفية حديثة هما: مفهوم الأزمة ومفهوم الثورة. ويعود المفهومان في كثافتهما الإشكالية والنظرية إلى فكر عصر الأنوار، الذي انبثقت منه ديناميكية الديمقراطية الحديثة وخطاب حقوق الإنسان. وأهم من تناول المفهومين هما فيلسوفا الثورة الفرنسية: ديدرو وروسو، في سياق تناولهما للهوية الأوروبية وإشكالات التحول التي تعيشها القارة العجوز في تلك الحقبة. لم تكن أوروبا أوانها مجالًا إقليمياً أو سياسياً موحداً، بل قارة مشتتة أنهكتها الحروب الدينية والصراعات الأهلية والقومية، إلا أن مفهوم "أوروبا" كفكرة وكوعي لدى النخب الثقافية كان قائماً ومتجذراً. وهكذا كتب الفيلسوف والأديب المعروف "فولتير" أن أوروبا وطن للأشخاص المتنورين في كل بقاع أوروبا واقع لا شك فيه. وهكذا نشأ مشروع الاندماج الأوروبي لدى النخب الفكرية والفلسفية في سياق تفكير عميق وموسع حول أزمة المجتمعات الأوروبية، وهو الاتجاه الذي سيظل مهيمناً على الفكر الأوروبي في كل مراحل تشكل ونمو المشروع الاندماجي. في هذا السياق، استخدم "ديدرو" مفهوم الأزمة لوصف أوضاع المجتمعات الأوروبية، مستعيراً هذا المفهوم من معجم التشخيص الطبي (وصف المرض وتحديد درجة خطورته). يقول "ديدرو" مشخصاً وضع أوروبا في القرن الثامن عشر قبل انتصار الثورة الفرنسية: "نتعرض لأزمة ستفضي إما إلى العبودية أو الحرية". وسيتحول مفهوم الأزمة بدلالته الجديدة التي تعني تشخيص الحاضر واستكناه المستقبل إلى محور دائم في الفكر الأوروبي في لحظات القلق واليأس العديدة التي عرفتها القارة في مراحل متتالية من تاريخها. استخدم الفيلسوف الألماني "هوسرل"، وهذا المفهوم في كتابه "أزمة العلوم الأوروبية "، الذي كتبه في فترة ما بين الحربيين العالميتين، مميزاً بين الأزمات الداخلية الطبيعية، التي تعرفها مختلف العلوم وأزمة الأسس الجوهرية نفسها، التي تتعلق بقابلية تقديم تبريرات نهائية وملزمة للمعارف. يشير هنا "هوسرل" من منظور معرفي إلى أزمة تتعلق بالوعي الفكري والمفهومي وبنظام العلوم في علاقته بتجارب المعنى والحقيقة، متسائلًا هل لا يزال مشروع التنوير الأوروبي قادراً على صياغة القيم الكونية التي قدمتها الحداثة الأوروبية للبشرية. وقد استخدم مؤسس التحليل النفسي "فرويد " المفهوم ذاته في الفترة نفسها في كتابه "أزمة الحضارة"، واستخدمه "شبنجلر" أوانها أيضاً في كتابه المشهور "انحطاط الغرب". ولعل أقوى تعبير عن الوعي بالأزمة الأوروبية في تلك الفترة هي رسالة الكاتب الفرنسي "بول فاليري"، التي عنونها بـ"أزمة الروح" وأطلق فيها صيحته الشهيرة:"نحن الحضارات الأخرى، أدركنا الآن أننا معرضات للموت". كانت رسالة "فاليري" احتجاجاً قاسياً على الدمار الذي شهدته القارة، ممتعضاً من كون الثورة العلمية والتقنية التي شكلت الإسهام الأكبر للحضارة الأوروبية الحديثة تحولت إلى أداة لتدمير الإنسانية. إنها الصيحة نفسها التي رددها "البير كامو" في نقمته على "أوروبا الخسيسة"، التي يكمن سرها في "أنها لا تحب الحياة". أما مصطلح "الثورة" فقد نقله "روسو" من السياق العلمي الكوسمولوجي إلى السياق الاجتماعي السياسي. كتب روسو في كتابه "أميل"متنبئاً :"إننا نقترب من وضع الأزمة ومن عصر الثورات"، معتبراً أن الوضع الحالي للمجتمع لا يمكن أن يستمر، ومن ثم فهو عرضة لـ"ثورات لا مناص منها"، تعني مقولة الثورة هنا القطيعة الجذرية والانقلاب الراديكالي الذي ينسف الوضع القائم كلياً. ومن نافل القول إن مفهوم "الثورة" تحول إلى محور نظري في الفكر السياسي الحديث منذ الاكتشاف الهيجلي – الماركسي لقارة التاريخ، أي تخويل الزمن في بعده الغائي قدرة الابتكار المطلق والتغيير الحتمي. بيد أن هذا المفهوم انسحب من الفكر السياسي الأوروبي بعد استقرار التجارب الديمقراطية (اعتبر الفيلسوف الألماني" بتر سلوتردايك" أن مفهوم الثورة انتقل من الإنسان إلى الآلة)، في الوقت الذي أصبح إطاراً ناظماً للفعل السياسي في الضفة الجنوبية المتوسطية، بدءاً من "ثورات" حركة التحرر الوطني انتهاء بالثورات التي أطلقت على انقلابات العسكريين القوميين العرب. وبعد عقود من تشخيص أزمات العقل العربي والمجتمع العربي، عاد مفهوم "الثورة" مع ديناميكية "الربيع العربي"، التي نظر إليها بصفتها أكبر من حركات احتجاج جماهيري وانتفاض شعبي، بل أحداثاً مؤسسة حقيقية على غرار الثورات الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولقد ساهم عدد من المفكرين الأوروبيين من تنامى الثورات اليسارية في تعزيز هذا التصور، محتفين بعودة أفق الثورة بما هي إعادة قلب جذري للرباط الاجتماعي وخروج من منطق الدولة والسيادة (الان باديو وتوني نغري وسلافوج زيزك...). واكب الحديث عن الثورات العربية حوار فلسفي أوروبي متجدد حول الأزمة الأوروبية تمحور حول إخفاقات المشروع الاندماجي الأوروبي والأزمة المالية الحادة التي تعرفها القارة حالياً. ودون الخوض في هذا الحوار المتشعب، نكتفي بالإشارة إلى أن أوروبا بصفتها، كانت دائماً ومازالت فكرة وليست إقليماً تأسست منذ البداية في علاقتها بالعالم أي بالبعد الكوني، بحيث عندما تتشكل أوروبا تصوغ في الوقت نفسه العالم كله. وكما يقول"سلوتردايك" إن دخول أوروبا في "عصر الغياب" يعني عملياً أزمة عميقة في تشكل العالم ، وفي مقدمته العالم المتوسطي الذي تشكل أوروبا ضفته الحية وقلبه النابض.