لم يشهد العالم من قبل انفتاحاً مثلما حدث في السنوات العشر الماضية، بحيث أصبح العالم سوقاً واحدة كبيرة موزعة على بلدان كثيرة، بل حتى البلدان التي تمتعت بالحماية والانغلاق لعقود طويلة اضطرت إما إلى إلغاء هذه القيود أو التخفيف منها إلى حدها الأدنى، إذ إن بديل ذلك هو الانعزال عن العالم وعدم الاستفادة من الفرص التي تتوافر في الأسواق الدولية، وذلك إذا ما استثمرت هذه الفرص بصورة صحيحة. ومع ذلك بقيت السياسات الاقتصادية لبعض البلدان متشددة، حيث يعتقد القائمون عليها خطأ أنها قادرة على الانعزال ومواجهة العالم، إما بسبب التعنت، كما هو الحال مع كوريا الشمالية، أو بسبب العقوبات الناجمة عن التمسك بسياسات إيديولوجية متشددة، كما هو الحال مع إيران. والحال أن في كلتا الحالتين تؤديان إلى تدهور اقتصادي وإلى تدني مستويات المعيشة للسكان، وهو ما يحصل بالفعل في هذين البلدين، إذ إن العولمة وهيمنة الشركات الكبيرة التي تدير الاقتصاد العالمي لها سياساتها ومعاييرها التي لا يمكن لدولة بمفردها مواجهتها. والحقيقة أن لرأس المال المالي المهيمن توجهاته التي تعبر عن المرحلة الحالية من تطور الاقتصاد الرأسمالي المتداخل، حيث يمكن ملاحظة أن هناك تناغماً لم يسبق له مثيل بين حركة الأسواق المالية في العالم، وكأنها تعزف ضمن فرقة متناسقة للموسيقى الكلاسيكية الراقية لإحدى سمفونيات بيتهوفن أو موزارت أو جيكوفسكي. والسؤال المطروح هنا أين موقع أسواق البلدان العازفة خارج هذه السمفونية، ككوريا الشمالية وإيران؟ التي لكل منهما أسبابه ومسبباته اللذين لم يستوعبا أن العالم قادر على ركنهما في زاوية ضيقة حتى وإن أدى ذلك إلى التخلي عن شراء النفط الإيراني مثلما يحدث حالياً. ومثل هذه النظرة الشاملة والموجزة للتغيرات الاقتصادية الدولية تمكننا من فهم ما قد يترتب عليها من تداعيات سياسية واستراتيجية، وخصوصاً أن هناك آراء متزايدة في الخليج العربي تشير إلى أنه ربما يكون هناك اتفاق من تحت الطاولة لتقاسم النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة. أما واقع المصالح والتوجهات الاقتصادية لكلا الطرفين، فيشير إلى غير ذلك تماماً. وقبل كل شيء، فإن الطبيعة المنغلقة للنظام الاقتصادي الإيراني لا تتناسب وطموحات رأس المال المالي الغربي، والأميركي تحديداً، المنفتحة شهيته على الاقتصاد العالمي، بل إنها تقف على الضد من هذه الطموحات، إذ تسعى إيران للتحكم في ثروة النفط الهائلة الكامنة في منطقة الخليج، الذي يمكن في حالة التفريط فيها أن يشكل كارثة لمصالح البلدان الغربية وشركاتها التي تدير الاقتصاد العالمي. إذن هناك تناقض صارخ بين هذين التوجهين، وذلك بغض النظر عن المساومات السياسية الدائرة بين الطرفين التي يحاول كل طرف من خلالها كسب الوقت ليس إلا، غير أن الأكيد هو أن أنظمة مثل كوريا الشمالية وإيران تعيش خارج نطاق العولمة، مما يضعها في تناقض مع سير الاقتصاد الدولي، وذلك بغض النظر عن إيجابيات وسلبيات العولمة وانفتاح الأسواق. وبما أن هذين البلدين يغردان خارج سرب الاقتصاد الدولي، فإن الآفاق أمامهما مسدودة، إذ إن حتى البلدان التي لا ترغب في الانضمام لمقاطعة النفط الإيراني، كالصين والهند وجنوب أفريقيا اضطرت إلى تخفيض وارداتها بنسب كبيرة، وذلك على رغم الحسومات والتسهيلات التي قدمتها إيران، كالدفع باليوان الصيني أو الروبية الهندية أو مقايضة النفط بسلع ومنتجات استهلاكية. وإذا ما اعتبرنا أن المصالح الاقتصادية هي المحرك الأساسي للتحالفات والتغيرات الجارية في العالم التي أشرنا إليها بصورة مختصرة، فإن ذلك يعني أنه لا مستقبل للأنظمة المنغلقة في ظل العولمة وانفتاح الأسواق وحرية حركة التجارة ورؤوس الأموال التي أصبحت سمة ملازمة للنظام الاقتصادي العالمي في العصر الراهن.