قال الزبون لموظف المصرف إنه يرغب بلقاء مديره المشهور بمهارته، أجاب الموظف: "صحيح ما قلته عن المدير، البوليس أيضاً يرغب بلقائه لمعرفة مهارته في شفط مليار دولار من أموال المصرف". هذه نكتة، لكنها أقل إثارة للضحك من اعتراف "ديمون"، رئيس "جي مورجان" الذي يعد أكبر المصارف العالمية، بالغباء. حدث ذلك في مقابلة تلفزيونية عن سبب خسارة مصرفه "ثلاثة مليارات دولار على الأقل". ونكتة اعتراف "ديمون" لا تُضحك المصرفيين لأنهم يعتبرونها غير مسلية، ولا حَمَلة أسهم المصرف الذين لا يعتبرونها نكتة. وآخر من يضحك للنكتة هو أوباما الذي قال في مقابلة تلفزيونية إن ديمون "أذكى المصرفيين عندنا"، ودافع عن قرار منحه مكافأة سنوية قدرها 23 مليون دولار عام 2011. ويضحك طويلاً من يضحك أولاً، وهو المضارب المالي "وينستاين" الذي ربح الملايين في المقامرة ضد "جي مورغان". كيف حدث ذلك؟ هناك تفسيران؛ أولهما يمكن تصوره لكن لا يمكن تصديقه، وهو خلل نظام الرقابة المالية داخل البنك، وثانيهما لا يمكن تصوره لكن يمكن تصديقه، وهو أن "جي مورجان" كازينو قمار. ونبدأ بالكازينو. في نوفمبر الماضي رصد "وينستاين"، وهو مقامر ممنوع من المقامرة في لاس فيغاس لتلاعبه بالأوراق، حركة غير عادية في عالم ما يُسمى "صناديق التحوُّط" في لندن. و"صناديق التحوُّط" هي مجموعة موجودات مستثمرين أثرياء يراهنون في عمليات مالية مضمونة الفوز، سواء ارتفعت الأسواق أو هبطت. ولتعظيم الربح تُقترضُ عادة الأموال على موجودات الصندوق، وتُستخُدم كرافعة مالية تزيد القوة الشرائية. و"الرافعة" المالية الأكبر هي التي تحقق أقصى ربح ممكن، أو أقصى خسارة محتملة. والرهانات على صناديق التحوُّط فتاكة، والفلوس فيها هي الحكم النهائي. هذا ما حدث لبرونو إكسل، الذي يُسمى "حوت لندن" لشهرة مراهناته الكبيرة التي يقوم بها لحساب "جي مورجان". ولا يُعرف كيف تورط "الحوت" في عمليات بيع الأسهم بكميات هائلة بهدف تنشيط حركة الأسواق الراكدة، وكيف انتبه المضارب وينستاين أن وراء حركة الأسواق الكبيرة "جي مورجان"، وكيف انفتحت هوّة في خزانة "جي مورغان" تسربت منها مليارات الدولارات. ولمعرفة الجواب ندخل مكتب رئيس البنك ديمون، الذي أنقذ المصرف من انهيارات 2008، واتخذ احتياطات كبيرة ضد تحول الأزمة الحالية إلى كارثة أكبر. ويصادف دخولنا المكتب زيارة مفاجئة لزوجة المدير بمناسبة عيد ميلاده فوجدته جالساً والسكرتيرة في كرسي واحد، وحالما انتبه ديمون شرع يملي على السكرتيرة بصوت عال "بالنظر للأزمة المصرفية العالمية قررنا الاكتفاء بكرسي واحد في المكتب". ومع أن هذه نكتة، فهي أرحم من مقالة كروجمان، الحائز على "نوبل" في الاقتصاد، وعنوانها "الأنانية واللاأخلاق". يعتبر كروجمان "ديمون" وزعماء "الوول ستريت"، أطفالاً مُفسدين يتحكمون بسلطة وثروة هائلتين، و"ما يحاولون فعله الآن بالسلطة والثروة ليس شراء سياسات تخدم مصالحهم فحسب، بل الحصول أيضاً على الحصانة ضد النقد". ويمتثل للحصانة ضد النقد حتى حملة أسهم المصرف الذين أيدوا، رغم خسارة المليارات، المنحَة السنويةَ لديمون. ولم يجرؤ سوى رئيس محاسبي مدينة نيويورك على الطلب من ديمون إعادة دفع مكافآته، ومرتباته أيضاً، وصرح ديمون بأنه قد يفعل ذلك رغم اشمئزازه من أن "يكون القاضي وعضو هيئة المحلفين في آن واحد"! "جي مورغان" واحد من أكبر خمسة مصارف عالمية أكبر من أن تنهار مهما ارتكبت من أخطاء. وهذا هو الخطأ بعينه في تقدير روبرت ريش، وزير العمل في عهد كلنتون، وأستاذ السياسة حالياً في جامعة بيركلي. فالبنوك الكبيرة أكبر من أن تُراقب، ولم يكن وجود أكثر من مائة مراقب مالي داخل مصرف "جي مورغان" مجدياً للحيلولة دون عملية "الحوت" التي تمت من داخل لجنة "جي مورغان" الاستثمارية، حيث لا وجود لمراقبين على محفظة سنداتها التي تبلغ 400 مليار دولار. ويدعو ريش إلى تفكيك المصارف الكبيرة، وفصل الصيرفة التجارية عن الاستثمارية، وعدم التساهل قط في ذلك، فأي استثناءات بهذا الصدد تستغلها المصارف لإبقاء حنفية الأموال تتدفق. وهل يمكن لحركة "احتلوا الوول ستريت" تغيير ذلك؟ أجل، إذا نجحت في تحويل حركة "انقلوا فلوسكم" إلى حملة مصرفية شعبية، وهي في طريقها إلى ذلك. عدد الحسابات التي غادرت المصارف الكبيرة منذ عام 2010 بلغ عشرة ملايين. ويذكر موقع "اتحاد رابطة الائتمان القومية" على الإنترنت أن العام الحالي شهد لأول مرة ارتفاع موجودات الاتحاد إلى أكثر من تريليون دولار. واتحادات الائتمان منظمات اجتماعية غير ربحية، تتقاضى أجوراً زهيدة عن خدماتها التي تقدمها للسكان قليلي الموارد، وتلتزم بحماية البيئة، ورعاتها ليس زبائنها فقط، بل هم مالكوها أيضاً، ويشاركون في أعمال بيزنس تعاونية. وتعمل هذه الاتحادات على تثقيف الجمهور والحكومات المحلية في الشؤون المالية، وإقناع الجميع بنقل حساباتهم من "الوول ستريت"، والتي يبلغ مجموعها أكثر من تريليون دولار. وكثير من الحكومات المحلية شرع في ذلك، والمشكلة الآن إيجاد مصارف محلية كبيرة تتسع لهذه الاحتياطيات. وتدعو الباحثة الأميركية إيلين براون، رئيسة "معهد الصيرفة العامة" إلى الاهتداء بتجربة المصارف التعاونية الألمانية التي توفر تمويلات جاهزة غير مكلفة للشركات المحلية والعائلية. ونصف إجمالي الموجودات المصرفية في ألمانيا في يد القطاع العام، الذي يتكون من 11 مصرفاً إقليمياً، وآلاف مصارف الإدخار المملوكة للمجالس البلدية. هذه البنوك الإقليمية والبلدية دعمت الشركات الريفية العائلية والشركات الصغيرة والمتوسطة التي تحرك ماكنة الصادرات الألمانية. وتوفر هذه المصارف للشركات الصغيرة نفس الفرص المتوافرة للشركات الكبيرة، ويحصل عمال الشركات الصغيرة على أجور مماثلة لعمال الشركات الكبيرة، وتُتاح لهم نفس المهارات وفرص التدريب، ويحققون معدلات إنتاجية متماثلة. ويبلغ معدل الأجر مع الضمانات الاجتماعية للعامل الألماني 48 دولاراً في الساعة، ويزيد هذا 50 في المئة عن معدل أجر العامل الأميركي البالغ 32 دولاراً في الساعة. وفي هذه الأرقام يمكن أن نقرأ كيف ارتقت ألمانيا المهزومة في حربين عالميتين إلى المرتبة الثانية في الصادرات العالمية، والصين الأولى، واليابان الثالثة، فيما جاءت الولايات المتحدة في مرتبة متأخرة. مشكلة البنوك الأميركية الكبرى، بما في ذلك "جي مورجان"، كمشكلة مريض أخذ أنفه بالنمو دون توقف، ورفض نصيحة أطباء راجعهم في مختلف البلدان أجمعوا على ضرورة إجراء عملية جراحية لبتر الأنف، واستبشر عندما طمأنه طبيب ياباني في طوكيو بعدم حاجته للبتر، وسأله أن يصعد على الكرسي، فصعد واثقاً، وأمره الطبيب "أقفزْ"، فقفز، وهتف الطبيب "أرأيتْ؟ أنفُك سقط لحاله"!