في موقع مدينة بابل القديمة بالعراق يمكن سماع دوي المطارق وهي تهوي على اللبنات القديمة في محاولة لإعادة تأهيل المنطقة وإقامة الدعامات الخشبية لمنع أسوارها من السقوط. فبعد سنوات من الإهمال وتدخل أطراف كثيرة لغير صالح الموقع التاريخي والإرث الإنساني يؤكد "تيري جراندين"، المستشار بصندوق الآثار العالمي، أنه "إذا لم نقم بشيء ما فإن المدينة القديمة، أو ما تبقى منها، ستختفي تماماً خلال السنوات العشر المقبلة"، ويشرف المستشار حالياً على عمليات الترميم التي تطال سور المدينة الذي يرجع تاريخ بنائه الأول إلى ما يزيد على 2600 سنة. أما المقر السياسي لمدينة بابل القديمة الذي يُعد أحد عجائب الدنيا، فقد عانى من أوقات صعبة كادت أن تقضي على ما تبقى منه، بحيث لم يتم إنقاذ سوى النزر اليسير من المدينة القديمة بتاريخها الذي يعود إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، ونجحت الحفريات في الكشف على جزء بسيط من المدينة فيما ضاع الباقي بسبب عوامل التعرية من ماء مالح يفتت دعائم المدينة، والرياح الرملية التي تهب على المنطقة، بالإضافة الى غياب المراقبة وتدخل الأيدي العابثة عبر العهود والأزمنة. ولعل ما زاد من تعقيد الوضع عمليات الترميم المتكررة التي أمر بها النظام السابق في العراق تحت حكم صدام حسين خلال فترة الثمانينيات، فضلاً عن التدخل الأخير للقوات الأميركية التي ألحقت هي الأخرى أضراراً بالغة بالهيكل القديم للمدينة التاريخية، وتبرز بالخصوص المحاولات الكثيرة التي قام بها الرئيس الأسبق، صدام حسين، لترميم أسوار المدينة وإعادة تسميتها على اسمه. هذه الجهود حالت دون إتمام الحفريات والكشف على أجزاء واسعة من المدينة ما زالت مدفونة تحت الأرض، وبسبب هذه التدخلات الحديثة رفضت منظمة اليونيسكو، التي تُعنى بحماية الموروث الإنساني، إدراج المدينة كجزء من ذلك الموروث. والسبب وراء الرفض يقول "جيفري آلان"، أحد المستشارين في صندوق الآثار العالمي "يرجع إلى التدخلات غير الموفقة التي قام بها صدام حسين في المدينة القديمة، هذه التدخلات لم تنته مع نهاية النظام العراقي السابق، بل تواصلت مع قدوم قوات الاحتلال، ما أدى إلى تغيير وجه المدينة القديمة". وفي إطار التدخلات المضرة بالمدينة، اختار صدام تلة قريبة تشرف على المدينة لبناء قصر فخم، لتتداخل اللبنات الحديثة التي كُتب عليها "في عهد صدام حسين" مع تلك القديمة التي تعود إلى عهد الملك نبوخذ نصر. كما أن بعض الأجزاء الفارغة في الأسوار تدل على تدخل من نوع آخر عندما جاء الجنود الأميركيون وسيطروا على المنطقة، حيث قام بعضهم باقتلاع بعض اللبنات كتذكار. أما اليوم، فقد تحولت الأسوار إلى ما يشبه رقعة مزركشة يتشابك فيها القديم بالحديث، كما تواجه المدينة خطر المياه الجوفية المالحة التي تهدد بقضم دعائم الأسوار وإسقاطها، وفي الثمانينيات عمد العمال وقتها إلى صب الخرسانة على الأسوار القديمة في محاولة لتجديدها ما أدى إلى محو معالمها الأصلية وطمس صورتها الحقيقية، وبدلاً من إنقاذ المدينة وإطالة أمدها تم إخفاء وجهها الحقيقي، وحتى الزوار الأجانب الذين تطمح السلطات العراقية لجذبهم إلى المنطقة وإنعاش السياحة يقتصرون في مجملهم على الدبلوماسيين الأجانب العاملين في بغداد الذين غالباً ما يأتون في مواكب ضخمة لحراستهم، لتبقى المدينة مفتوحة أكثر للأهالي وطلبة المدارس العراقيين الذي ينظمون رحلات دورية إلى موقع مدينة بابل التاريخية، وبعض آثارها التي ما زالت قائمة مثل الأسد الذي يرمز إلى عشتار، آلهة الحب والحرب في الميثولوجيا البابلية القديمة. وفي هذا الإطار يقول صلاح حسن، مسؤول عراقي محلي "لم تعد بابل مدينة تخص العراقيين وحدهم، بل هي جزء من الموروث الإنساني..لذا نحاول فتح أبواب المدينة أمام الزوار الأجانب للتعرف على حضارة العراق القديمة". لكن التحديات لم تنته متمثلة في غياب تام للبنية التحتية، فضلاً عن إغلاق المدينة على مدى السنوات الماضية بعدما تحولت إلى موقع عسكري تابع للجيش الأميركي، ناهيك عن المشاكل الأمنية التي تعوق السياحة، ولعل ما جعل الموقع مفضلاً للأميركيين هو القصر الرئاسي الذي يتواجد على مقربة منه، حيث بنى ، صدام حسين، قصراً كبيراً في المنطقة وزوده بمنصة لانطلاق الطائرات المروحية، وبسبب العمليات القتالية التي تمت بالقرب من أسوار المدينة التاريخية فقد تعرضت أجزاء واسعة منها للهدم، وما زال الأمر يحتاج إلى حفريات لاستخراجها من تحت الأنقاض، وبدلاً من التركيز على أصالتها التاريخية وتفردها الحضاري القديم، يسعى الخبراء الذين يشرفون على ترميم الأسوار على إدماج المعطيات الحديثة مع المدينة القديمة لإقناع اليونيسكو بإدراجها ضمن الموروث الإنساني. ومعنى ذلك أن مدينة بابل لن تُصور فقط على أنها مهد الحضارة العراقية القديمة التي شهدت العديد من الإنجازات البشرية المهمة، بل سيُنظر إليها في إطار صيرورة تاريخية تدمج ما تعرضت له على يدي صدام حسين مثلاً، والاحتلال الأميركي تالياً، لتصبح خليطاً من الحضارات المتعاقبة تحمل بصمات إنسانية متنوعة، وهو ما يعبر عنه الخبير في الآثار جيفري آلان قائلاً "لقد تغيرت الرواية التاريخية الآن، نحن نحاول التركيز على مجمل الحقبة التاريخية من حمورابي والعصر البرونزي إلى صدام حسين والاحتلال الأميركي، وهذا ما نحاول الترويج له بالقول إن بابل كيان حي متطور عبر العصور وليست مجرد آثار ورثناها من الماضي السحيق". -------- جين آراف-العراق -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"