في الحادي عشر من الشهر الجاري شهد ميدان السبعين بصنعاء أسوأ تفجير إرهابي في تاريخه، إذ فجر جندي بقوات الأمن المركزي -من الواضح أن تنظيم "القاعدة" قد جنده- نفسه وسط حشود القوات التي كانت تتأهب لعمل "البروفة" الأخيرة للاستعراض العسكري الذي كان مقرراً أن يجري في اليوم التالي في الذكرى الثانية والعشرين للوحدة اليمنية. كان الإرهابي يرتدي حزاماً ناسفاً قدر وزنه بسبعة كيلوجرامات، واحتواؤه على ثلاثة عشر ألف شظية، مما أدى إلى مصرع مئة جندي وإصابة ثلاثمائة آخرين. ومن الواضح أن هذا التفجير كان جزءاً من خطة أوسع حيث استطاعت قوات الأمن اليمنية القبض على شخصين كانا يرتديان بدورهما حزامين ناسفين بالقوة نفسها، فضلاً عن اعتقال إرهابيين آخرين كانا يحاولان دخول مطار صنعاء وآخرين غيرهم. وقد تبنى بيان من تنظيم "القاعدة" العملية، وقال إنها كانت تستهدف وزير الدفاع وكبار القادة، وتوعد بمزيد من الهجمات في صنعاء ما لم يتوقف عمل الجيش ضد "القاعدة" في جنوب البلاد. ولزمان التفجير ومكانه دلالتهما الواضحة، فالزمان هو -كما سبقت الإشارة- عشية الاحتفال بعيد الوحدة اليمنية التي يعتبرها معظم اليمنيين إنجازاً تاريخياً يُعض عليه بالنواجذ تحقق بعد نضال طويل ضد المستعمر وحوار ممتد بين الشطرين، بالإضافة إلى أنها أنهت عقدين من الصراع المسلح بين جنوب اليمن وشماله بفعل الاختلاف الأيديولوجي بين نظامي الحكم فيهما، ومن ناحية أخرى جاءت الوحدة اليمنية عربياً في زمن تراجع فيه هدف الوحدة على المستوى العربي، وتعززت فيه سيادة كل دولة عربية على حدة، فكانت أملاً للحالمين بالوحدة العربية في أن تحقيقها ما زال ممكناً بعد النكسات المتتالية التي مُنيت بها محاولات إنجازها. أما المكان فهو ميدان السبعين بصنعاء الذي يحمل لدى اليمن ذكريات الحصار على الثورة في أعقاب خروج القوات المصرية من اليمن بعد هزيمة 1967، وانتصارهم على هذا الحصار الذي كان يهدد بقاء ثورتهم. امتدت ردود الفعل للحدث بحيث تجاوزت الحدود العربية إلى الآفاق العالمية حيث لقي العمل الإرهابي أوسع إدانة ممكنة من كافة الأطراف، والأهم من الإدانة أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية باتت أكثر اقتناعاً بأن اليمن يواجه تحدياً خطيراً من تنظيم "القاعدة"، إلى الحد الذي تناثرت فيه أقاويل عن كون الولايات المتحدة ربما تفكر جدياً في إرسال قوات مدربة لقتال "القاعدة" تعزز بها قدرة الجيش اليمني، وهو ما نفاه الرئيس الأميركي أوباما، وبالتأكيد فإن المقصود هو التدخل العسكري البري المباشر، لأن الولايات المتحدة تشارك في قتال "القاعدة" على أرض اليمن بالفعل وإن يكن جواً وليس براً، وأكد أوباما في هذا السياق أن الحادث سيزيد من التعاون في المجالين العسكري والاستخباري. وعلى الصعيد الاقتصادي قرر المجلس الوزاري الثالث لمجموعة أصدقاء اليمن في الرياض تقديم أربعة مليارات دولار وتكفلت السعودية وحدها بتقديم ثلاثة مليارات وربع المليار دولار من هذه المساعدة، والمهم أن يستتب الاستقرار في اليمن ويُعاد بناء مؤسسات الدولة التي ضعفت كثيراً إبان أحداث الثورة، وبصفة خاصة المؤسستين العسكرية والأمنية حتى تصبح الاستفادة من هذه المساعدات ممكنة. من الواضح إذن أن تنظيم "القاعدة" بات يشكل خطراً حقيقياً على اليمن، فهو يحتل قرى ومدناً صغيرة في الجنوب ويفرض حكمه ونمط حياته، وها هي ذراعه تمتد إلى العاصمة بهذا العمل الخطير، وليس صحيحاً أن هذا الخطر قد ظهر بمناسبة ما أصاب الدولة اليمنية من ارتباك بمناسبة الثورة وأحداثها، فالواقع أن الخطر موجود من قبلها -وإن تفاقم الآن- بسبب الأوضاع المتردية للدولة اليمنية قبل الثورة، والتي قامت الثورة أصلاً للتخلص منها. غير أن تنظيم "القاعدة" لا يشكل الخطر الوحيد على دولة الوحدة اليمنية، فالحقيقة أنه مجرد ضلع في مثلث الخطر الذي يهدد بقاء الدولة اليمنية بأوضاعها الحالية. أما الضلع الثاني فهو ضلع "سياسي" وليس إرهابياً، ويتمثل في تصاعد مطلب الانفصال لدى "الحراك الجنوبي" وأنصاره، بعد أن كانت الحركة مطلبية تحاول وضع حد للأوضاع الجائرة التي لحقت بقطاع واسع من أبناء الجنوب بعد انتهاء حرب الانفصال في 1994، بالإضافة إلى الاعتراض على ممارسات رأى فيها أنصار الحركة نوعاً من "الاحتلال الشمالي" للجنوب، والواقع أن جُل هذه الممارسات كان منسوباً لأنصار علي عبدالله صالح ونخبته، وليس إلى الشعب اليمني في الشمال الذي كان يعاني من نظام صالح معاناة الجنوبيين نفسها. ومع تصاعد هذه المطالب ومواجهتها بالتجاهل أحياناً وبالقمع أحياناً أخرى حدث تغير جذري في توجه "الحراك الجنوبي" وأنصاره تمثل في المطالبة بالانفصال والعودة إلى الوضع السائد قبل الوحدة أي إلى وجود دولتين يمنيتين إحداهما في الشمال والثانية في الجنوب. وأصبح المعتدلون يقبلون كحد أدنى تغيير شكل الدولة إلى الفيدرالية، وربما كان بعضهم يتمثل "فيدرالية العراق"، وهي في الواقع مجرد إطار فضفاض لتفكيك الدولة العراقية، وليس لزيادة تماسكها. والواقع أنني كنت منذ ما قبل الوحدة متحمساً للصيغة الفيدرالية، وقد عبرت عن رأيي هذا أثناء زيارة علمية لصنعاء وأوضحت مبرراته في المراحل الأخيرة من الحوار الذي سبق قيام الوحدة، غير أن هذا الرأي قوبل باعتراض حاسم من قبل المشاركين اليمنيين في الحوار باعتباره دعوة إلى أن تكون الوحدة ضعيفة من بدايتها، وها هي السنوات تدور ويصبح الحل الفيدرالي هو الصيغة التي يمكن أن تكون مخرجاً من الأزمة الحالية، وبالمناسبة فإنه ليس كل اليمنيين مستعدين للترحيب بها سواء من قبل شماليين يرون في الحل الفيدرالي نكوصاً عن الوحدة، أو جنوبيين يعتبرون هذا الحل دون الحد الأدنى من مطالبهم. والغريب أن تأتي المطالبة بالانفصال -أو على الأقل تتصاعد- في زمن الثورة التي شارك فيها كافة اليمنيين شماليين وجنوبيين، والتي كان من نتائجها بداية القضاء على التهميش السياسي للجنوب على الأقل بانتخاب رئيس جنوبي للبلاد خلفاً لصالح، والتوافق على مناضل جنوبي بارز كرئيس للحكومة الانتقالية، ويحتاج حل معضلة الانفصال إلى جهد سياسي من الطراز الأول لإقناع الجنوبيين والشماليين معاً بجدواه. أما الضلع الثالث فهو مشكلة الحوثيين التي قد لا تكون الآن متفجرة كما كانت في أوقات كثيرة، ولكنها كما نعلم وصلت غير مرة إلى حد الحرب، فضلاً عن مخاطرها الإقليمية لما هو شبه ثابت من أن إيران تدعم الحوثيين. وكذلك خطرها إن تفاقمت على الوضع الإقليمي نظراً لقرب نقطة تمركز الحوثيين من السعودية. يواجه اليمن إذن خطراً متعدد الأبعاد على وحدته، وقد تفلح الأدوات العسكرية حيناً في مواجهات مؤقتة لهذا الخطر، ولكن السبيل الوحيد لاجتثاثه من جذوره هو إعادة بناء الدولة اليمنية على أساس المواطنة دون تفرقة بين شمال أو جنوب، وإتاحة الفرص العادلة لكل يمني في ممارسة حقوقه حتى لا تفوح "رائحة الدم" مرة أخرى أثناء احتفال بمناسبة عزيزة وغالية على اليمن والأمة العربية، وهي ذكرى يوم الوحدة اليمنية التي كانت أملاً حقيقياً في مستقبل أفضل لشعب اليمن وأمته العربية.