قبل عامٍ ونصف العام وعندما خرجت بعض الجماهير تملأ الساحات والميادين بهتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" كان قلة من الكتّاب العرب يطرحون بصراحة ووضوح- آنذاك بأنّ هذه الجماهير ليست الشعب، وأنها شيء والشعب شيء آخر، وكان مجرد التذكير بمعلومة علمية مثل هذه يثير سخط الشباب الثائر وبعض المتحمسين لهم ممن لا ناقة لهم ولا جمل في بعض الدول العربية، والآن وبعد ظهور النتائج الأولية لانتخابات الرئاسة وتقدّم أحمد شفيق بنسبة تصويت كبيرة قوامها ملايين من المصريين لم يستوعب الشباب الثائر ما جرى وأخذ عدد منهم يكيلون الشتائم للشعب المصري ويعتبرون المواطنين الذين منحوا أصواتهم لشفيق خونةً وفلولاً. لقد تم نشر العديد من المقالات طوال الفترة الماضية، والتي كانت تؤكد على أنّ الديمقراطية كقيمٍ ومبادئ تختلف عن الديموقراطية كآليات ووسائل ومثالها هنا "صندوق الاقتراع" وأن الشعوب العربية ليست جاهزةً لديمقراطية على النمط الغربي بعد، فكانت الردود تنهال بأنّ الناس ستتعلم مبادئ الديمقراطية من خلال الممارسة وعلى الجميع أن يقبل بما يخرج من "صندوق الاقتراع"، وكان من شبه المجزوم به لدى من يطرح هذا الطرح أن الصندوق سيخرج منه الثوّار أو المعارضون السابقون كأبي الفتوح وحمدين صبّاحي أو الإخوان المسلمون، وعندما أخرج الصندوق شفيق ومرسي أسقط في يد الشباب الثائر ومؤيديهم من بعيد ولمّا لم يكن بإمكانهم التشكيك في نزاهة الانتخابات كآليةٍ أصبحوا يتّجهون بطروحاتهم لاتهام الشعب في وعيه وثقافته واكتشفوا لأول مرةٍ أنهم مختلفون عن هذا الشعب، جزء منه نعم، ولكن مع أجزاء أخرى يبدو أنّها سئمت -فيما سئمت- من احتكار الحديث باسمها. كان البعض يبشّرنا بأن صندوق الانتخاب هو قبس من نور محض تأرز إليه الأحلام وتخرج منه الآمال، وأنه هو سبيل النجاة الوحيد ورمز التحضر الأوحد فلما جاء بما يكرهون شرقوا بنتائجه فأصبح في أذهانهم أقرب ما يكون لتوابيت الموتى ونعوش الأوهام. إن إرث الشعوب الثقافي والحضاري وتركة الوعي لديها أمر لا يمكن تغييره بين عشيةٍ وضحاها، والقوى المتجذّرة في المجتمع لعقودٍ لا يمكن أن تتبخّر بهتافات وشعارات، ولهذا أخرجت انتخابات الرئاسة "الإخوان المسلمين" الذين أحسب أنّ أحداً لم يعد يعتبرهم مجرّد "فزّاعةٍ" كما كان البعض يجادل بحماسةٍ، والقوى القديمة الأخرى بهواجسها الطائفية أو مصالحها العائلية أو بحثها عن حاجاتها الأساسية كالأمن والاستقرار هي قطاعات عريضة من الشعب. لقد تمّ تقديم محاولات لتوصيف وتحليل وتفسير ما يجري منذ 25 يناير، وكان كثير منها متفائلاً يعتبر ما جرى ثورات، ويرى أنّ الثورات تحمل الحلول السحرية دائماً، وكانت القلة متشائمةً بأنّ ما يجري هو احتجاجات أو انتفاضات، ولا يصح وصفها بالثورات، وكذلك بأنّ الثورات كانت غالباً خياراً سيئاً تدفع ثمنه الشعوب والدول، وأنّه كلّما أمكن الإصلاح والتطوير فهو بالتأكيد خير من الثورات. يتمّ اتهام من يطرح مثل هذا الطرح بكونه ذا هوى فلولي وأنّه يقبض ثمن أفكاره وآرائه كما هي شتائم المتحمسين من الشباب الثائر لكل من يخالفهم، ولم يقف العاقل منهم ليُسائِل تلك الطروحات أو يناقشها علمياً ومعرفياً، إمّا لأنّ كثيراً منهم لم يفهموها ولم يدركوا عمق رؤيتها وحجم الصواب في تحليلاتها، وإما لأنهم كانوا في حالة من الصخب تحجب عن عيونهم وعقولهم رؤية أي طرح يقلل من أحلامهم أو يضع مبضع النقد على أوهام عراض كانت تملأ المشهد. يعتقد البعض أنّك حين تقدّم نقداً متماسكاً للاحتجاجات في العالم العربي، وترفض تسميتها بالثورات لاشتراطات علمية لم تتوافر فيها، وحين تتخذ موقفاً علمياً ناقداً للجماهير وطبيعتها وأدوارها وتأثيراتها، يعتقد أنّك بالضرورة تفضّل الأنظمة السابقة بكل مساوئها، وكأنّ الناقد والباحث مجبر على الاختيار بين سيئين أو بين سيءٍ وأسوأ، بينما بإمكانه بكل بساطةٍ عرض قناعاته الفكرية وآرائه السياسية كما نضجت لديه وليس مجبراً بالضرورة على الانحياز لأي من الطرفين. إن الباحث والمراقب حين يبذل وقته وجهده في القراءة والبحث والرصد والتحليل للتبصر في مشهد مختلط وفوضى عارمة، وحين يسعى لتمحيص المصطلحات والمفاهيم ليتمكن من التمييز بين الغثّ والسمين في كل ما يدور في المنطقة فإنّه وحين ينتهي إلى قناعات غير شعبية ينبغي له أن يعرضها للمتلقين بجرأة الباحث عن الحقيقية لا بصرامة الآيديولوجي المتطرف ولا الثائر المتحمس. لقد كان خطاب بعض النخب يقدّم نموذجاً رومانسياً في قراءته للاحتجاجات العربية، ويحمّلها ما لا تحتمله من أحلام وآمال، وكان ثمة تغذية متبادلة بين الشباب الثائر المتحمس وبين تلك النخب، الشباب يهيم في أخطاءٍ وخطايا يدفعه إليها الجهل وقلة الخبرة، وتلك النخب تبرّر له كل ما يصنع وتلتمس له الأعذار وتمتنع عن نقده، وحين جاءت لحظة الحقيقة لم يستطع الحلم أن يصمد أمام قوة الواقع واكتشف القافزون في المجهول أنّ التاريخ أثقل من أن تجرّه قفزاتهم خلفها، إنّه أرسخ وأثقل بكثير. إنّ التنوّع الطائفي في مصر لم يتمّ التعامل معه كمعطىً تاريخي وواقعي يحتاج لجهدٍ فكري وواقعي للتعامل معه بعقلانية، بل كان يكتفى بالشعارات كـ "مسلم ومسيحي إيد وحده" وهذه الشعارات تذوب تحت شمس الواقع عند أدنى اختلاف، وهو ما رأيناه بعد الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات ودعم الأقباط لشفيق، حيث بدأ الهجوم عليهم صاخباً لدى بعض الشباب الثائر ومخيفاً في لغة البيان الذي أصدرته الجماعة الإسلامية. تبدو مصر في هذه اللحظة الحرجة حقاً من تاريخها وكأن لديها قدرة كبيرة على "الإسقاط" فمن "إسقاط" النظام إلى "إسقاط" الفلول إلى "إسقاط" المخالفين، وأخشى أن نسمع يوماً شعاراتٍ تريد "إسقاط" الأقباط، وأكثر من هذا فإن بعض ردود الأفعال المتحمسة في الأيام الأخيرة كانت وكأنها تلمح إلى أنّ الثوّار يريدون إسقاط "الشعب". أخيراً، ومع كل هذا الهوس بـ"الإسقاط" أتمنى أن تجد مصر من يريد "البناء" من يريد الخروج بها من أزمة تاريخية، ولكنني أحسب آسفاً أنّ دون هذا ما لا يقل عن عقدٍ من الزمان حتى تستطيع مقاربة الخروج من كبوتها واستعادة حيويتها ودورها الفاعل. عبدالله بن بجاد العتيبي Bjad33@gmail.com