بعد عام ونصف العام من التغيير، وفي ظل ما نشهده من تطورات وانتكاسات وانقسامات وأنصاف حلول وتراجع للأحلام وتواضع للإنجازات، بات من المُلح أن نتساءل: ماذا عن المستقبل؟ وإلى أين يأخذ الحراك الثوري، وما يسمى الربيع العربي المنطقة؟ وكيف يؤثر غياب وتراجع تأثير القوى العربية الكبيرة والمركزية، مقابل تقدم وتذبذب أدوار القوى الإقليمية غير العربية في المنطقة؟ والإشارة هنا إلى أكثر من حالة عربية، من نتائج انتخابات الرئاسة المصرية التي أكدت تذبذب وانقسام الناخبين والمجتمع المصري بين تطلعات الثورة والتغيير والتمسك بالماضي و"الفلول"، إلى استمرار النزيف السوري بارتكاب مجازر متنقلة وتعثر خطة كوفي عنان المبعوث الدولي والعربي ونقاطه الست في الشأن السوري، وطبعاً لا يبدو أن هناك خطة "ب" للتعامل مع النظام السوري الذي يستمر في انتهاج أسلوب الترهيب والإفراط في استخدام القوة. وأنا أكتب هذا المقال مساء الجمعة تتوارد الأنباء العاجلة عن مجزرة في الحولة في ريف حمص التي سقط فيها 100 قتيل معظمهم أطفال ونساء! وفي الساحة الأولى فقد كانت الانتخابات المصرية في الدورة الأولى مثيرة وحبست الأنفاس وغابت ثقافة الرئيس الضرورة ونتائج 99,9 في المئة على رغم كون النتيجة معروفة سلفاً، واستطراداً رسائل الناخب المصري مرتبكة ومحبطة، وقد أثارت الكثير من الأسئلة حول مسار ومستقبل ثورة 25 يناير 2011 بسبب الانقسام بين تطلعات وآمال الثورة التي قد تدفع للقفز للمجهول، مقابل التمسك ببقايا النظام القديم بشخصية أحمد شفيق ابن المؤسسة العسكرية. وبعد عام ونصف العام من اندلاع الحراك الثوري، تقدم الثورة المصرية صورة مرتبكة وتؤكد انقسام الشعب المصري. فثلث الشعب صوّت لأحمد شفيق وعمرو موسى إذا ما جمعنا أصوات شفيق وهو آخر رئيس وزراء في عهد مبارك التي وصل عددها إلى 24 في المئة من الأصوات المعبّر وحل ثانياً، وحصيلة عمرو موسى الذي حصل على 11 في المئة من أصوات الناخبين! وبهذا بدا الانقسام واضحاً في تصويت الناخبين المصريين. فتقدم مرشح حزب الحرية والعدالة محمد مرسي على المرشحين، وأتى في المرتبة الأولى بحصوله على 5,6 مليون صوت أو 25,3 في المئة من الأصوات. بينما كان "الحصان الأسود" في هذا السباق هو المرشح الناصري حمدين صباحي الذي حل ثالثاً بنسبة 21,6 في المئة من الأصوات حاصداً حوالي 5 ملايين صوت. فيما حل المرشح الإسلامي المستقل عبدالمنعم أبو الفتوح رابعاً بنسبة 18 في المئة من الأصوات وأكثر من 4 ملايين صوت. واليوم يتوقع أن يتكتل مرسي مع أبو الفتوح وصباحي، لتشكيل جبهة تدعم مسار الثورة، يفترض أن تدعمها قوى الثورة والشباب، لكي تواجه مرشح النظام السابق الفريق أحمد شفيق، وزير الطيران المدني ورئيس أركان القوات الجوية المصرية السابق وآخر رئيس وزراء في عهد نظام مبارك، وهو حتى الآن من سيخوض انتخابات الإعادة مع مرسي. مما يعتبر معارضوه أنه يفرغ الثورة من مضمونها وإنجازاتها وقد يفجر ثورة ثانية. وقد بادر "الإخوان" مع تأكد أن مرشحهم محمد مرسي سيخوض جولة الإعادة بعد أقل من شهر، بإطلاق مبادرة موجهة لجميع القوى السياسية لإنقاذ الثورة داعين إلى حوار وطني يناقش مصير البلاد ومستقبلها ويسعى "لإنقاذ ثورتنا المباركة" -بحسب تعبيرهم- ولوقف إعادة إنتاج النظام القديم بحلة جديدة.. وذلك في إشارة إلى المرشح شفيق، ما يقسم المجتمع المصري بين توجهين وخطين ومستقبلين. وأهمية مصر على الدوام تكمن في دورها المركزي، وأنها ترسم وتستشرف مسار الحراك الثوري في المنطقة والدول التي تمر بمخاض التغيير. وكان ملفتاً تحذير "الإخوان المسلمين" من أن فوز شفيق "سيضع الأمة في خطر"! وفي الحالة السورية حدث تطور خطير آخر في الأسبوع الماضي، حيث تمددت هذه الحالة لتسقي لبنان كأساً مرة ارتوى منها الشعب السوري، وفي هذا السياق جاء تحذير الملك عبدالله بن عبدالعزيز من خطر عودة الحرب الأهلية إلى لبنان. وأتى ذلك في رسالة للرئيس اللبناني بعد اعتقال شاب سلفي لبناني يساعد السوريين اللاجئين، اتهم بالانتماء إلى تنظيم "القاعدة" في شمال لبنان. كما وقع أيضاً اغتيال شيخ وإمام مسجد سني على حاجز للجيش اللبناني في شمال البلاد مما استفز واستنفر الطائفة السنية. وأعقب ذلك اختطاف زوار لبنانيين شيعة في سوريا في طريق عودتهم براً بحافلات من زيارة دينية إلى إيران. وقد استفز ذلك أيضاً الشارع الشيعي اللبناني الذي يستقوي عادة بمكوناته السياسية والعسكرية ممثلة خاصة في "حزب الله". فإذا بتركيا ورئيس وزراء لبنان السابق سعد الدين الحريري ودول أخرى -لا نستبعد أن تكون بينها دول خليجية- تتدخل وتتوسط وتفرج عن الرهائن اللبنانيين لتعيدهم طائرة رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري إلى أرض الوطن. على أمل أن يكون في هذه النهاية مصداق للمقولة "رب ضارة نافعة"، بحيث تجمع وتوحد تلك الحادثة اللبنانيين مجدداً بعد طول انقسام وتخندق واستقطاب. وبطبيعة الحال فقد كان للجانب التركي الدور الأبرز في التوسط وإطلاق سراح اللبنانيين. ويعيد هذا إلى الأذهان، مرة أخرى، تعاظم الدور غير العربي في المنطقة. وحال مصر إذن كحال بقية المنطقة من سوريا ولبنان إلى اليمن الذي عاد تنظيم "القاعدة" لينشط فيه، والطائرات الأميركية بدون طيار تنشط هناك أيضاً في تعقبه. هذا وصولاً إلى السودان الذي اتهم وزير خارجيته علي كرتي إسرائيل بالاعتداء على سيادة بلاده بقصف سيارة في منطقة بورسودان. وبهذا تبدو حالة الانكشاف الخطيرة إذا كانت ذراع إسرائيل الطويلة تصل حتى إلى السودان، في العمق العربي. وكنا قد علقنا مراراً في هذه المساحة بأن دول الجوار العربي من تركيا وإيران وإسرائيل هي من يتحكم ويؤثر في العديد من المعادلات المتصلة بمصالحنا، وهي اللاعبون الأكثر تأثيراً، بشكل متنامٍ، على مجريات الأوضاع في المنطقة ككل. ومرة أخرى تلعب إسرائيل، ولو بصفة غير مباشرة، دوراً في المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، والإشارة هنا إلى اجتماع بغداد في الأسبوع الماضي بين إيران ومجموعة خمسة + واحد. ولم تنجح المفاوضات على رغم الآمال التي علقت على هذا الاجتماع، وذلك بسبب نقاط إيران الخمس وإصرار أميركا على مواقفها. وبخلاف ما كان متوقعاً من مساعٍ لحلول وسط في ظل براغماتية إيرانية غابت خلال فترة العام ونصف العام الماضية، فلم يتم التوصل إلى حل وسط حول وقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة وإغلاق منشأة "فوردو" النووية مقابل تخفيف العقوبات. والملفت في اليوم التالي، ورود أنباء من الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن العثور على آثار يورانيوم مخصب بأكثر من 20 في المئة مما يثير مخاوف من تسريع إيران التخصيب ورفع نسبته. وكل هذا يزيد من مأزقها ومواجهتها مع الغرب. وفي المجمل فإن هذه التطورات هي نتاج الحراك الثوري العربي، معطوفاً على ذلك تنامي أدوار الأطراف الإقليمية غير العربية. وتلك الأطراف التي استفادت منها تركيا، وخسرت إيران وإسرائيل، تسعى للتأثير على مستقبل الربيع العربي، ليس برسم أدوار الأطراف غير العربية خلال الفترة القادمة فحسب، بل مستقبل المنطقة وبالتالي مستقبل النظام الإقليمي أيضاً.