في الوقت الذي كانت فيه الجماهير الخليجية (على الأقل في البحرين) تستعد للإحتفال بإعلان الاتحاد الخليجي مؤخراً أي حينما عقدت القمة التشاورية السنوية لمجلس التعاون في الرياض، جاءتها أنباء تأجيل مشروع الاتحاد إلى وقت لاحق "من أجل المزيد من التشاور والدراسة" كما قيل، الأمر الذي أصابها بالإحباط. وبطبيعة الحال، فإن الجارة الخليجية غير العربية، ومعها أتباعها من الميليشيات والشخصيات والقوى السياسية الطائفية في لبنان والعراق وسوريا والبحرين والكويت، من تلك المعروفة بكراهيتها ومعارضتها لمثل هذا التوجه الوحدوي الخليجي، الذي سيُفشل حتماً مخططات الأعداء والحاقدين والمتربصين ويقف بالمرصاد لأجنداتهم التوسعية ومشاريعهم التخريبية، اعتبروا قرار التأجيل نصراً معنوياً لهم، وراحوا يروجون الإشاعات والأكاذيب حول وجود خلافات مستعصية بين دول مجلس التعاون، وتضارب في الآراء، وصراع على احتكار المناصب، وغير ذلك مما استدعى – بحسب قولهم – تأجيل مشروع الاتحاد إلى أجل غير مسمى. ولأن الجهات الرسمية في المنطقة، التزمت الصمت كعادتها، ولم تقل للناس شيئاً عن النتائج التي توصلت إليها اللجنة المكلفة بدراسة مقترح الاتحاد أو شيئاً عن نقاط الاتفاق والاختلاف في مواقف الدول الأعضاء أو شيئاً عن الدول الضاغطة بإتجاه الاتحاد والدول المترددة حياله، فإن إشاعات المغرضين وجدت لها بيئة خصبة للانتشار والقبول. الأمر الذي لا جدال فيه أن منطقة الخليج تعيش اليوم وضعاً استثنائياً يتطلب من قياداتها وشعوبها التكاتف والتآزر وتوحيد الإمكانات والقدرات المتاحة على أعلى المستويات وبأقصى قدر ممكن، ودون الالتفات إلى صغائر الأمور. وهذا تحديداً ما استشعرته القيادة السعودية ممثلة في الملك عبدالله بن عبدالعزيز حينما دعت إلى ضرورة "الانتقال من صيغة التعاون إلى صيغة الاتحاد". فالصيغة الأولى ولدت في زمن مختلف ومن أجل التصدي لظروف مختلفة، بينما الصيغة الثانية تستدعيها تحديات جديدة مغايرة، وإن كان لا يزال من بينها التحدي الأمني الذي هيمن على صياغة ميثاق مجلس التعاون في 1982. ولهذا، فإن البعض المخلص الذي فؤجئ بقرار تأجيل مشروع الاتحاد الخليجي أشار إلى: أن الأوضاع المضطربة خليجياً وإقليمياً وعربياً ودولياً لا يسمح بالانتظار، وأن الانتظار أو التردد يعني إرسال إشارات خاطئة إلى المغرضين مما قد يغريهم بالإقدام على خطوات حمقاء تجاه دول الخليج العربية وشعوبها. وهناك من استخدم وسائل التواصل الاجتماعي ليغرد قائلاً: أمامكم يا قادة دول مجلس التعاون نموذجاً اتحادياً زاهياً وقوياً بناه المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في دولة الإمارات، فلماذا لا تلتحقون به، بدلاً من إضاعة الوقت في الدراسات وتشكيل اللجان ولجان اللجان؟ غير أن هناك - وهذا رأي كاتب هذه السطور أيضاً – من وجد في قرار تأجيل الإعلان عن الاتحاد خطوة لا غبار عليها، إن كان القصد منها فعلاً المزيد من التشاور والدراسة بغية الحصول على إجماع أو شبه إجماع حيال المشروع المقترح. فأن يُطبخ المشروع الاتحادي على نار هادئة، ويـُختار مكوناته بعناية ودقة، وتُؤسس هياكله لبنة لبنة، خير من العمل المتسرع غير المدروس المؤدي إلى كوارث وإحباطات ومنغصات مستقبلية. نقول هذا وأمامنا تجربة الوحدة السورية – المصرية في 1958 والتي تبخرت في 1962 على يد صناعها وأكثر المتحمسين لها من ضباط الجيش السوري، من بعد أن بنت عليها الجماهير العربية الآمال العريضة ورأت فيها مقدمة لتوحيد الأمة "من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر" مثلما كان يتردد في حينه. إن من عاش تلك الحقبة يتذكر جيداً أن مآل تلك الوحدة إلى الفشل كان سببه الجوهري هو التعجل والجري وراء العواطف والمصالح الشخصية دون التوقف ملياً أمام الاختلافات الجذرية بين مكونيها لجهة طبيعة النظام السياسي السائد، ودور الاقتصاد في المجتمع، ومدى ما تحقق من مكاسب اجتماعية وثقافية وحقوقية في كل قطر. ولا نجافي الحقيقة لو قلنا إن فشل تجربة ما سـُمي بـ "الجمهورية العربية المتحدة" بإقليميها الشمالي والجنوبي، جعل صانع القرار العربي يتوق إلى مشاريع وحدوية بديلة للتعويض عن الإخفاق الأول، لكن دون الاتعاظ من ذلك الإخفاق لجهة التأني والدراسة المستفيضة. وهكذا جاءت الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق في 1963 والتي ماتت قبل أن يجف حبر ميثاقها، واتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا في 1971 والذي لا يـعرف أحد تاريخ وفاته بدقة بسبب تبرؤ إعضائه منه، ليزيدا العرب إحباطا فوق إحباط. ولعل ما زاد إحباطهم ومرارتهم النهج العبثي للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي في استغفال نظيره التونسي الحبيب بورقيبة لإقامة وحدة اندماجية فورية بين تونس وليبيا في 1974، وهو المشروع الوحدوي الذي لشدة التسرع فيه كُتب ميثاقه فوق أوراق الفندق الذي حل به القذافي في جزيرة جربة التونسية، بحسب شاهد عيان هو المفكر والوزير التونسي السابق "عبدالسلام المسدي". ما أشرنا إليه في هذه العجالة من أمثلة وحدوية أو اتحادية عربية فاشلة يؤكد أن السبيل الأمثل إلى كيان وحدوي متين وقادر على الصمود أمام كل العواصف يكمن في السير خطوة خطوة، وبناء الهيكل الاتحادي على أوتاد صلبة، أي على النحو الذي سلكه الأوروبيون في بناء مشروعهم الاتحادي. إن شعوب الخليج العربية انتظرت أكثر من ثلاثين سنة لترى حلمها في الاتحاد يتحقق، فلا يضيرها أن تنتظر سنة أو أكثر، إن كان في ذلك مصلحة مؤكدة كأن يصار إلى حل بعض ما تبقى من خلافات، وإزالة بعض ما تبقى من عوائق الانتقال والعمل والتحرك الحر. ولنتذكر في هذا السياق نموذج الاتحاد الأوروبي المتميز في صيغته (لا كونفدرالي ولا فيدرالي)، وفي تدرج عدد أعضائه (من ست دول في الخمسينات إلى 27 دولة حاليا)، والمتميز لجهة إعداد الدول التي تريد الالتحاق به (تهيئتها من النواحي الاقتصادية والسياسية والتشريعية والتنموية مسبقاً)، والمتميز من ناحية المؤسسات التي خلقها خلال مشواره منذ أن كان مجرد اتحاد للفحم والفولاذ في 1951 (محكمة العدل الأوروبية، والمصرف المركزي الأوروبي المركزي، والبرلمان الأوروبي، ومفوضيات الشؤون الخارجية والمالية والدفاعية والبيئية والبحثية والصحية والثقافية والتعليمية وشؤون الطاقة وغيرها). د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين elmadani@batelco.com.bh