قبل أسبوعين كنت في لبنان، وكان كل شيء يوحي بأن هذا البلد مقبل على صيف سياحي نشط، فعمليات التجديد والاستعداد للموسم قائمة على قدم وساق. فالطريق إلى الجبل والذي تكفلت الكويت بإعادة بنائه يكاد يكتمل وإلى جانبه رفع اللبنانيون لافتات الشكر والتقدير للكويت ودول الخليج العربي لدورها في تنمية لبنان. والأماكن التي تستقبل المصيفين تزيل عنها درن الشتاء مستقبلة فصل الربيع الذي كسى الجبل اللبناني خضرة تراقصت بينها الأزهار. الشيخ وجيه "صاحب محل الفواكه والخضراوات"، ترك زبائنه واستقبلنا مرحباً بنا كعادته، وبعد أن أطمئن على الأهل والأصدقاء، أطلق السؤال الذي كان حبيس صدره "جايين انشاء الله ها الصيفية؟ " ، عرفت سر سؤاله ، فقابلته بسؤال آخر "كيف كانت صيفيتكم السنة الماضية يا شيخ وجيه؟"، أجاب: "منيحه استاذ .. بس الموسم كان مضروب، أنت بتعرف الناس بتعيش على ها الموسم .. الله يعين". غادرنا بيروت، وكل شيء يوحي بالهدوء الحذر! ولم تمض أيام وإذا بالوضع يتفجر في الشمال، ويمتد إلى مناطق أخرى حتى بلغ بعض ضواحي بيروت. فقد كان لبنان على صفيح ساخن بسبب ما يدور في سوريا، فأصدقاء النظام السوري في لبنان لا يقلون عن خصومه، وكان لبنان "الرسمي " قد اتخذ موقف "النأي" بنفسه عن اتخاذ موقف بشأن الثورة السورية، وقد تفهم العرب والعالم هذا الموقف نظراً لطبيعة الوضع الداخلي في لبنان وعلاقته بسوريا. لكن يبدو أن بعض الزعماء اللبنانيين لم يعجبهم أن يكون لبنان بمنأى عما يدور في سوريا، فآثروا جره إلى مستنقع الصراع لا في سوريا وحدها بل في الإقليم بمجمله خدمة لمصالح بعض القوى الإقليمية وبدى ذلك واضحاً من خلال تصريحاته "النارية " التي أطلقها بعضهم منذ اليوم الأول للثورة السورية، حين أعلن أن نظام الأسد لن يسقط بدعوى دعمه للمقاومة ومساندته لها. ولم يكتفوا بذلك بل أطلقوا التهديدات في كل اتجاه، ولم يضعوا مصلحة لبنان في ميزانهم ولم يراعوا طبيعة العلاقات التي تربط لبنان ببعض الدول، خاصة دول الخليج العربي التي نالها نصيبا من التهديدات والحملات الإعلامية، مما دفع هذه الدول لدعوة رعاياها إلى الامتناع عن السفر إلى لبنان وعودة من كان منهم هناك إلى موطنه خوفاً من تعرضهم للأذى على يد البعض. وهي خطوة لها تأثيرها على العلاقات بين هذه الدول لبنان على المستويين السياسي والاقتصادي، وذلك على الرغم من الموقف الخليجي المساند للدولة اللبنانية بدءاً من اتفاق الطائف وانتهاءً باتفاق الدوحة الذي لم ترد له بعض القوى السياسية اللبنانية أن يأخذ طريقه للتطبيق، لأنه سيقطع عليها الطريق نحو الهيمنة على مفاصل الدولة اللبنانية كما سيقطع عليها مشروعها لعزل لبنان عن محيطه العربي والرمي به في أحضان القوى الإقليمية الداعمة لها. لقد عانى اللبنانيون من سياسييهم أكثر من أعدائهم، فلم يكتفِ هؤلاء الساسة بخمسة عشر عاماً من حرب "داحس و الغبراء" الحديثة! ، حيث دمروا بصراعاتهم وارتهانهم للقوى الخارجية ما كان قائماً من لبنان "النموذج"، الذي كان العرب يطمحون إليه في ذلك الوقت وحولوه إلى لبنان الذي يضع العرب قلوبهم على أيديهم كلما سمعوا عن صراع إقليمي أو دولي، لأنهم يعلمون أن لبنان سيكون ساحة لهذا الصراع، وها هي مخاوفهم تتحقق فالقادة السياسيون اللبنانيون لم يكتفوا بصراعات الداخل بل نقلوا صراعات الخارج إلى ساحتهم ولم يتورعوا عن تدمير بلادهم خدمة لمصالحهم الحزبية الضيقة أو مصالح غيرهم ، فالحكومة القائمة أو قوى 8 أذار الموالية لسوريا والتي كانت تنتمي للمعارضة سابقاً تأمل في تعزيز مكانتها في الانتخابات النيابية في العام القادم حتى تستمر هيمنتها على السلطة، بينما تحاول قوى المعارضة أو قوى 14 آذار- التي تعارض سوريا- وكانت تتولى السلطة إفشال خصومها، ولو أدى ذلك إلى شل حركة الدولة وحرمان الشعب اللبناني من الاستقرار والأمن والعيش بسلام مستثمرين الأحداث من حولهم لخدمة أهدافهم. وقد جاءت تلك الأحداث لتعزز مواقف كل طرف، فالوضع السياسي والاقتصادي القائم حالياً يخدم كل طرف إذ أنه سيعزز الحضور الإقليمي وخاصة من إيران لدعم القوى الموالية لها والمساندة لسوريا وستستثمر الوضع الاقتصادي للدفع بلبنان إلى أحضانها أو أحضان غيرها من القوى الإقليمية. أما على المحيط الداخلي، فإن عينها مركزة على صناديق الانتخابات القادمة، بينما ستستثمر القوى المعارضة الوضع الاقتصادي لإثبات أن الحكومة الحالية عجزت عن دفع عجلة التنمية الاقتصادية، وأنها تسببت في عزل لبنان عن محيطه العربي، كما تسببت له بكارثة اقتصادية بسبب تراجع مداخيل لبنان، جراء تضرر السياحة، وعينها متجهة كذلك إلى صناديق الانتخابات. وفي كل الأحوال فإن اللبنانيين هم الخاسرون. لقد حاولت بعض وسائل الإعلام اللبنانية والإقليمية، وصف الخطوة الخليجية بدعوة رعاياها لعدم التوجه إلى لبنان على أنه موقف عدائي تجاه هذا البلد، وهم يعلمون عمق العلاقة بين أهل الخليج العربي واللبنانيين، لكنهم يعلمون كذلك ما يفعله كثير من قادتهم السياسيين، الذين يبدو أنهم الوحيدون الذين يكرهون لبنان! د.سعيد حارب كاتب إماراتي drhareb@gmail.com