ليست الثورة في مصر فقط تغيير النظام "الشعب يريد إسقاط النظام". وليست أيضاً تنحية الزعيم أو إسقاط الرئيس "الثورة تريد إسقاط الرئيس". وليست كذلك تغيير المؤسسات الدستورية، مجلسي الشعب والشورى، اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، والانتخابات الرئاسية، وعودة الجيش إلى الثكنات، وإشغال الناس بالانتخابات وصراع الأحزاب على المناصب بدلاً من تحقيق أهداف الثورة في أقل وقت ممكن. وليست أيضاً تحقيق بعض أهداف الثورة دون غيرها. بل إن للثورة أبعاداً رمزية تتمثل في عادات وممارسات جسدية وقولية. وهي إذن ليست مجرد حركات بل هي رموز لها دلالات عديدة. الثورة سلوك يومي في كيفية التعامل مع الزعيم قبل إسقاطه وعدم انتظار دخوله بين القضبان للتشفي فيه والانتقام منه بعد أن قتل البعض المحسوب على النظام وعذب واعتقل معارضيه. وقد يكون أول علامات السلوك غير الديمقراطي في التعامل مع الزعيم حركات الجسد. وهي ليست مجرد حركات خارجية بل قد تدل على حالات نفسية من الخوف والارتعاش. وتدل هذه الحالات على وضع التوجس الذي قد يشعر به الإنسان أمام الزعيم. فالجسد الذي يقوم بوظائف المعاش في العمل باليد، "هذه يد يحبها الله ورسوله"، فليس أفضل ممن أكل من عمل يده، والسعي بالقدم "اسعَ يا عبد وأنا أعينك"، والتصويب بالعينين، والسماع بالأذنين في الموسيقى، والشم بالأنف في العطور، هذا الجسد قد يؤدي وظائف أخرى لتعظيم الزعيم افتعالاً ولخدمته حتى لو توقفت باقي الوظائف الطبيعية. وأول حركات الجسد لتعظيم الزعيم في ثقافة صناعة الزعيم الانحناء أمامه. وتختلف درجات الانحناء طبقاً لشدة الخوف، ربع انحناء إذا كان الخوف نسبياً، ونصف انحناء إذا كان الخوف شديداً. والعيون لا تنظر إليه بل إلى الأسفل، نحو الأرض لأن عيونه نفاذة تبعث على الرهبة والخوف. وقد كان بعض الناس يغمى عليهم وهم في حضرة ديجول الرئيس الفرنسي لما له من حضور في الوعي الفرنسي. فهو قائد المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، ومنقذ فرنسا من عدوانها على الجزائر واحتلالها لها، والتسليم باستقلالها بعد انتخابات حرة لشعب الجزائر. وكرر نفس الشيء مع السنغال بتخيير الاثنين بين أن يكونا جزءاً من فرنسا أو الاستقلال مع الانفصال، أو الاستقلال مع التعاون. والانحناء احتراماً هو ما يحدث أحياناً في اليابان من باب احترام المرأة للرجل، زوجاً كان أو ضيفاً. وتظهر حركات الجسد أيضاً في قيام الحاضرين للزعيم إذا أتى، وجلوسهم بعد أن يجلس، دون الاكتفاء بالتصفيق أو الهتاف. ويكفي ذلك شرفاً. وقد يتحرك الجسد كله علامة لتعظيم الزعيم بالسير وراءه لحمايته من الخلف سواء كان على الأقدام إذا كان في البهو والمسافة قصيرة أو كان في العربة في موكب والمسافة طويلة. وقد يكون السير أمامه لتوسيع الطريق ولدواعي الأمن من الألغام المخفية التي قد تستهدفه. ويكون السير بجواره لحمايته من الاعتداء عليه من أحد جانبي الطريق. ولو كان بالإمكان السير من فوق لحمايته من القصف الجوي لحدث خاصة لو كانت السماء ملبدة بالغيوم يصعب على أحد فيها الرؤية. وقد توضع حواجز على جنبات الطريق لمنع العامة من الاقتراب. وتسد بعض الطرق. ويُغير سير المرور، ويُعطل كلية أحياناً بالساعات حتى يمر الزعيم أو يصل مكان زيارته. والناس تتضرر لتأخيرها عن مواعيد عملها. ومنهم المريض الذاهب إلى المستشفى، والطالب الذاهب إلى معهده. وتنظف الطرق التي يمر بها الزعيم ليلتها وكأن النظافة حكر عليه، والقمامة قد تعود عليها الشعب. ويُعاد دهان الأرصفة بالأسود والأبيض لتجميل حافتي الطريق. وهو ما فعله الثوار أثناء الثورة في مصر بعد انسحاب الشرطة ورجال الأمن والقيام بدورها. وبسرعة فائقة تصلح الأرصفة ويُعاد تركيب البلاط المخلوع على رغم أن المحافظة معروفة ببطئها في تنفيذ الخدمات أو إهمالها كلية. وبالإضافة إلى الجسد هناك اللسان. وزيادة على حركات الأعضاء تضاف الألقاب. وهناك السيد الرئيس، سيادتك، فخامتك. في حين أن أول ما فعلته ثورة يوليو 1952 إلغاء الألقاب المدنية مثل "باشا"، و"بك"، وهي ألقاب تركية في معظمها. ولم يبق إلا "أفندي" التي تقال للجميع. وكذلك قد تكثر التعبيرات التي تستجيب له عند الطلب مثل "في خدمتك"، و"أنا خدامك"، و"أفندم"، و"طلباتك". وينخفض الصوت وقد تتلعثم الكلمات على رغم قلتها. كما يجاب بألفاظ الموافقة مثل: "نعم"، "حاضر"، "تمام" وكأنه لا اعتراض عليه، ما شاء فعل. ولم يمنع ذلك التبجيل للزعيم في مصر من الموت الطبيعي كما حدث لرئيس الجمهورية الأولى. ولم يمنع ذلك من الاغتيال، وهو ما حدث لرئيس الجمهورية الثانية. ولم يمنع ذلك من ثورة الشعب عليه والخروج بالملايين في الميادين عليه، والتوجه إلى محاصرة القصر، وإجباره على التنازل ثم إدخاله قفص الاتهام كما حدث لرئيس الجمهورية الثالثة الذي ما زال يحاكم باسم الشعب وقضائه. لقد بدأ إعطاء الألقاب وكل مظاهر التعظيم والتفخيم للزعماء في مصر كعادة منشؤها الخوف بلا داع، حرصاً على منصب أو مشاركة في الفساد. ثم تحولت العادة المتبعة إلى قانون، من يخرج عليه يفقد منصبه. ولماذا لا ترن في أذننا دائماً قولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن الأكرمين الذي ضرب مواطناً مصرياً عادياً اعتماداً على حسبه ونسبه "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟"؟ هذا يحتاج بعد الثورة إلى التحول من العادات القديمة إلى عادات جديدة، ومن ضغوط الأب في الأسرة، والمعلم في المدرسة على التلميذ، والتهديد بالقبض عليه في الجامعة أو بالاعتقال بعد التخرج إلى عادات أخرى يستمع فيها الأب إلى رأي الطفل، والمعلم إلى اعتراض التلميذ، والأستاذ إلى حجة الطالب، والزعيم إلى اعتراض المواطن. هذا هو درس الثورة.