يتساءل النائب السابق والصحفي اللبناني سمير فرنجية في كتابه الصادر مؤخراً تحت عنوان "سفر إلى تخوم العنف" عن الكيفية التي يمكن بها ترويض ثقافة العنف والصراع داخل النسيج السكاني والطائفي اللبناني، منطلقاً في ذلك من استدعاء تجربة بلاده المريرة مع سنوات الحرب الأهلية التي أتت على الأخضر واليابس طيلة عقد الثمانينيات والنصف الثاني من عقد السبعينيات. ومن خلال تتبع مخاضات ذلك العنف المعمم على امتداد 15 عاماً، وما تلاه من واقع المساكنة السياسية والطائفية الصعبة طيلة 15 عاماً أخرى لاحقة من الحضور السوري الطاغي في لبنان، أو ما يمكن تسميته عهد "السلام السوري" Pax Syriana يرسم فرنجية صورة قاتمة متلاطمة عن جذور وخلفيات المعادلة اللبنانية الراهنة. وضمن هذا الجهد التتبعي يسجل فرنجية روايات وتجارب بعض الشهود الذين عايشوا سنوات الجمر اللبنانية تلك، وكذلك شهادات بعض الفاعلين في المشهد اللبناني الداخلي خلال تجاذبات تلك المرحلة، مستعرضاً من هذا كله أحوال بلاد ظلت طيلة العقود الأربعة الماضية مترنحة في أتون الأزمات، هذا في حين كانت تبدو -للمفارقة- مع مطلع ستينيات القرن الماضي منارة تحديث وتنمية واعدة، ونموذجاً ثقافياً واقتصادياً لعموم منطقة الشرق الأوسط. أما كيف جرى هذا الانحراف في مسار التجربة اللبنانية لتغوص في مخاضات العنف والصراع والاحتراب الطائفي، فهذا ما ينذر الكاتب جزءاً كبيراً من عمله لبيانه وتعرية أسبابه الخفية الكامنة. ويرى فرنجية أن جذور العنف في الحالة اللبنانية ليس بالضرورة أن تكون أكثرها أهمية تلك المعروفة والطافية على السطح، ذلك أن المواجهات بين الطوائف والجماعات اللبنانية إن صح أنها قد انفجرت للعلن سنة 1975 مع اندلاع الحرب الأهلية، إلا أن بداياتها الحقيقية وبذورها الكامنة كانت ثاوية منذ عقود، محتشدة في الثقافة وفي الاصطفافات والعلاقات والبنيات والمؤسسات السياسية القائمة على المحاصصة والمساكنة الصعبة تحت سقف وطن لبناني واحد لم يتعامل معه كثيرون على أنه هو الهوية الوحيدة، والوطن النهائي. بل لقد ظلت الهويات الفرعية، والولاءات العابرة للحدود لدى بعض الأطراف والوجوه السياسية، تنخر في جسم بلاد الأرز، لبنان الدولة والوطن. وما فعلته الحرب الأهلية هو في الأساس إظهار أشكال الإخفاق في التعايش، والنفور المتبادل بين بعض متطرفي مختلف الطوائف، ولذا كان طبيعياً يومها أن تعبر كل تلك التناقضات عن نفسها من خلال صراع الشيعة والمسيحيين والسنة، وخاصة أن إرهاصات هذا الصراع كانت قد أعطت إشارات إنذار مبكرة سنة 1958 لم يتم احتواؤها أو إعطاؤها الأهمية التي تستحقها باتخاذ تدابير استباقية أو وقائية للحيلولة دون نشوب العنف الطليق اللاحق. وأكثر من هذا أن اتساع حركة الاختلاط بين أبناء مختلف الطوائف في المناطق والمدن الكبرى زاد من فرص الاحتكاك والإرباك. لأن الصراع الداخلي بين أبناء الطوائف شبه المنغلقة على ذاتها يكون عادة أسهل احتواء وتسوية، مقارنة مع الصراع الخارجي متعدد الطوائف. ولذا لم ينتصف عقد السبعينيات حتى نضجت جميع الشروط الموضوعية والسياسية الممهدة لاندلاع الحرب الأهلية، وذلك لأن بيروت باعتبارها بوتقة التقاء بين مختلف الطوائف والحساسيات السياسية والطائفية والمذهبية كانت يومها تعيش على حافتي صدع واستقطاب شديدين بين تيارات إسلامية تقدمية مناصرة بقوة للفلسطينيين، وتيارات مسيحية بالغة الحساسية تجاه أي مساس بالتوازنات اللبنانية الداخلية القائمة. وزيادة على هذا كانت أيضاً ثمة مساعٍ من قبل إسرائيل لتأجيج الوضع، وهي التي راودتها طويلاً أحلام استمالة قوى جبل لبنان المارونية. وما أن تمكن اللبنانيون من التخلص من أحلام التدخل الإسرائيلية في ترتيبات معادلتهم الداخلية المعقدة حتى وقعوا في أحابيل مساعي نظام حافظ الأسد لترويض الحالة اللبنانية وتجيير تناقضاتها الداخلية بما يدعم الحضور السوري النافذ في بلاد الأرز. وبسرعة ارتسمت في الأفق أيضاً اصطفافات أخرى جديدة بين معسكرين أحدهما داعم للنظام السوري ووكيل له في الداخل اللبناني، وآخر مناهض له أيضاً، ودون قيد أو شرط. وخلال العقود الثلاثة الماضية ترسخت في المشهد السياسي اللبناني، في النهاية، مدرستان سياسيتان، إحداهما تنافح عن مبدأ العيش معاً تحت سقف لبنان المشروع السياسي والوطن النهائي. والأخرى تدفع به للانخراط في أتون صراعات المنطقة، باعتباره جبهة متقدمة للمقاومة والمواجهة والصمود والتصدي، وسوى ذلك من شعارات ولافتات، ترفع عن حق أو عن باطل. ولا يشذ طبعاً عن محاولات إقحام لبنان في هذه الأتون ما يجري اليوم على حدوده الملتهبة. فبعد أن كانت بلاد الأرز هي وحدها التي تسافر يومياً على تخوم العنف والحرب الداخلية، ارتمت سوريا أيضاً -بعد العراق- في هذه الأتون ضمن مخاضات ما بات يسمى "الربيع العربي" منذ أكثر من سنة، ويراد اليوم للبنان دفع نصيبه من ضريبة هذا الصراع الداخلي السوري. وفهم هذه الواقعة، واحتواء التداعيات الخطيرة التي يمكن أن تترتب عليها، من شأنهما تجنيب لبنان اليوم أن يتجشم عناء سفر جديد إلى تخوم العنف الملتهبة. حسن ولد المختار الكتاب: سفر إلى تخوم العنف المؤلف: سمير فرنجية الناشر: آكت سيد- سندباد تاريخ النشر: 2012