تقول دراسة أعدتها جامعة براون الأميركية إن الحروب التقليدية كالحربين اللتين شنتهما الولايات المتحدة على العراق وأفغانستان كلفت حتى الآن 3,7 تريليون دولار. وتقول الدراسة أيضاً إنه إضافة إلى عدد الضحايا من القوات الأميركية بين قتلى وجرحى ومعاقين، فإن نتائج هذه الحروب أثبتت أنها لم تكن ناجحة للقضاء على الإرهاب. وفي ضوء ذلك تدعو الدراسة إلى انتهاج أسلوب آخر لمكافحة الإرهاب يكون أقل تكلفة (بشريّاً وماديّاً) وأشد فعالية، حتى لو كان ذلك على حساب القانون والمبادئ العامة. وكان قد صدر في عام 2001 وبعد أحداث سبتمبر من ذلك العام مباشرة، قانون أميركي يعطي الرئيس سلطة اتخاذ إجراءات مسلحة ضد الأشخاص والمؤسسات والدول المتورطة بهجوم 11 سبتمبر 2011، كما تعطيه حق اللجوء إلى تبريرات "الدفاع عن النفس" بموجب القانون الدولي. لم تكن تلك الدراسة مجرد بحث علمي أكاديمي. كانت أساساً لصناعة سياسة أميركية جديدة من الحرب على الإرهاب. وكانت وزارتا الخارجية والدفاع الأميركيتان قد طلبتا إجراء هذه الدراسة الجامعية. ويبدو أن إدارة أوباما قد اعتمدتها وصاغت على أساسها مبدأً جديداً لسياستها الخارجية. ومما ساعدها على ذلك أن وزارة الدفاع تملك اليوم سبعة آلاف نظام جوي لقصف أهداف معادية من دون مشاركة الطيارين. كما تملك 12 ألف جهاز أرضي لقصف هذه الأهداف المعادية من دون مشاركة قوات مشاة أو قوات مدفعية. وقد استخدمت هذه الأنظمة الحديثة حتى الآن ضد ست دول، وأدى استخدامها إلى تغيير صورة الحرب التقليدية المعروفة. لم تعد الولايات المتحدة مضطرة لإعلان الحرب على أحد. ولكن ذلك لا يعني أنها لا تمارس الحرب كل يوم. إن 0,5 في المئة فقط من الشباب الأميركيين الذين يتجاوزون الثامنة عشرة يخدمون في القوات المسلحة. فالحرب الجديدة لم تعد تحتاج بالضرورة إلى مقاتلين أشداء، ولكنها تحتاج إلى عقول قادرة على استخدام التقنيات القتالية الجديدة. فبعد انسحاب القوات الأميركية من العراق، تستعد هذه القوات الآن للانسحاب من أفغانستان. فهل يعني ذلك أن الحرب على الإرهاب قد انتهت؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من التأكيد على أمر أساسي. وهو أن الحرب يمكن أن تتواصل بوسائل أخرى. وأن هذه الوسائل الأخرى ليست سياسية أو دبلوماسية بالضرورة. ذلك أن عملية القتال يمكن أن تتم عن بُعد. وهي طريقة توفر الكثير من النفقات ومن الخسائر البشرية. ويبدو أن أوباما صاغ مبدأ "القتل الصامت" بدلاً من مبدأ "القتل الصاخب" الذي ساد طوال فترتي رئاسة بوش. فبعد جريمة 11 سبتمبر 2001، لم يكن من مقتضيات رفع المعنويات القومية الأميركية شنّ الحرب على الأعداء المفترضين فحسب، وإنما أيضاً تضخيم خسائرهم والتشهير بهم؛ وقد ذهبت الإدارة الأميركية السابقة في اعتماد هذا المبدأ بعيداً إلى حد ارتكاب مجازر جماعية وجرائم ضد الإنسانية في العراق وأفغانستان وباكستان، وإلى توجيه اتهامات كاذبة ومصطنعة لتبرير هذه الجرائم وممارسة التعذيب لانتزاع اعترافات غير صحيحة من المعتقلين المتهمين. ولم تنطلِ تلك الأكاذيب على الرأي العام العالمي ولا على الرأي العام الأميركي، وأدى افتضاحها إلى انهيار حاد في سمعة الولايات المتحدة وفي صدقيتها. ولما جاء أوباما إلى البيت الأبيض وضع على رأس أولوياته تصحيح هذه الصورة البشعة واستعادة الصدقية المفقودة. فكان تخليه عن مبدأ الحرب الصاخبة، وتبنيه لمبدأ الحرب الصامتة. وتدور رحى هذه الحرب الجديدة في أربع ساحات معاً هي إيران وباكستان وأفغانستان واليمن. ففي إيران تستهدف الحرب المؤسسة النووية تحديداً، وذلك من خلال: 1- اغتيال العلماء الاختصاصيين، وقد تم اغتيال أربعة منهم في شوارع طهران بالذات. 2- اغتيال القادة العسكريين التنفيذيين (الجنرال حسن طهراني مقدم -الخبير في الصواريخ بعيدة المدى). 3- ضرب البرامج الإلكترونية الإيرانية بفيروس "شاك نت" الذي أشاع الاضطراب والفوضى في عمل الحواسيب الإلكترونية العاملة في المفاعلات النووية. لقد وجهت التهمة لإسرائيل بارتكاب هذه الجرائم. ولكن ما كان لها أن تقوم بذلك من دون مشاركة أميركية. وفي باكستان توقفت القوات الأميركية عن القيام بأي عمل عسكري تقليدي ضد قوات حركة "طالبان" التي تستهدف طرق الإمداد والتموين إلى أفغانستان. غير أن العمليات العسكرية لم تتوقف. إذ تقوم بها طائرات من غير طيارين توجه قذائفها ليس فقط إلى أهداف عسكرية لـ"طالبان"، بل حتى إلى أهداف عسكرية باكستانية يعتقد الأميركيون أنها متواطئة أو متعاونة مع "طالبان". ومنذ عام 2004 أنجزت القيادة الأميركية 300 عملية من هذا النوع في العمق الباكستاني. وقد تسببت هذه العمليات بخسائر بشرية فادحة من دون أن يصاب جندي أميركي واحد بجراح! غير أن هذه الطائرات الموجهة كثيراً ما تخطئ في إصابة أهدافها، فتسقط حممها المدمرة فوق القرى الباكستانية وتلحق بأهلها القتل وبمبانيها الخراب والدمار. ولعل العملية الأميركية التي أصابت "بالخطأ"، ثكنة عسكرية باكستانية وأدت إلى مقتل 25 جندياً باكستانياً وإصابة العشرات منهم بجراح، كانت آخر هذه العمليات وأخطرها. ذلك أن رد فعل العسكريين الباكستانيين كان المزيد من العداء للولايات المتحدة. وقد يترجم المزيد من العداء بالمزيد من التواطؤ مع "طالبان" ليس حباً بسياستها، بل انتقاماً من السياسة الأميركية. أما في أفغانستان، فقد بدأت الحرب الصامتة من خلال طائرات من دون طيارين تحل محل القوات الأميركية في الجبهة. إلا أنها كثيراً ما تخطئ أهدافها وتصيب مثلاً "عرساً" كان يعتقد الأميركيون أنه تجمّع لـ"طالبان". أو تصيب مدرسة في قرية اشتبه بأن عناصر من حركة "طالبان" يختبئون فيها، فتكون النتيجة مقتل العشرات من الطلاب والأساتذة ليس بينهم مقاتل واحد من "طالبان". وأما في اليمن فقد طاردت العمليات التي تشنها طائرات موجهة من دون طيارين جماعات "القاعدة"، حتى "مجاهل الريف اليمني الجنوبي". وكان من نتائجها اغتيال عدد من أفراد تنظيم "القاعدة" بينهم أنور العولقي الذي يحمل الجنسية الأميركية إلى جانب جنسية آبائه اليمنية. وحتى خلال الحرب الليبية، قامت طائرات أميركية من دون طيارين بأكثر من 146 عملية تحت مظلة منظمة حلف شمال الأطلسي. وكانت آخر عملية استهدفت موكب القذافي وهو يحاول الهرب مع مجموعة من أنصاره من مخبئه في سرت بتاريخ 20 أكتوبر 2011. وقد أصيب الموكب إصابات مباشرة مما اضطره إلى العودة. حتى تمكن الثوار الليبيون من اعتقاله وقتله بعد فترة قليلة. وفي ضوء ذلك، تبرز أهمية مبدأ "الحرب الصامتة" الذي اعتمده أوباما وعمل به. فما يحدث في أفغانستان لم يعد يعرّض عناصر القوات الأميركية للخطر. إذ لا يقتل أحد منهم إلا نادراً. ولا يصاب أحد منهم بجراح إلا عابراً. أما سقوط طائرة استطلاع أو طائرة قاذفة من دون طيار فمجرد خسارة مادية محدودة تكاد لا تذكر. ولذلك تلقى عملية سقوطها تجاهلاً إعلاميّاً. ومما يعزز هذا المبدأ أيضاً أن الضحايا من الأفغان أو الباكستانيين، قلّ عددهم أو كثر، ليسوا شأناً مثيراً للاهتمام في الإعلام الأميركي.. إلا في دوائر محدودة جداً تهتم بحقوق الإنسان وبأخلاقيات العمل السياسي. لقد كان مبدأ "القتل الصاخب" يحرك الضمير العالمي استنكاراً للقتل الذي يذهب ضحيته كثير من الأبرياء، الأمر الذي أدى إلى تدهور سمعة أميركا بوش إلى الحضيض. والآن أصبح اعتماد مبدأ "القتل الصامت" يتحايل على الضمير العالمي ويخفي عنه الحقائق، ويحجب الممارسات البشعة. ذلك أن عمليات القتل بموجب هذا النظام لا تقوم بها القوات الأميركية ولا تقع مسؤوليتها على وزارة الدفاع -البنتاغون- ولكن المؤسسة التي تقوم بها هي جهاز المخابرات المركزية "سي. آي. إيه" وبالتالي فهي عمليات سرية. إلا أنها عمليات قتل. وفي الحسابات الأخيرة يستمر القتل ولكن بوسائل أخرى!