لولا الأرقام العربية لما انهارت مصارف كبرى، وما تأرجح الاقتصاد العالمي على حافة الهاوية. قد تبدو هذه المسألة العلمية نكتة، وهي كذلك، علمية ونكتة. فالأرقام العربية من صفر إلى 9 أطلقت منذ طوّرها العرب في القرن التاسع للميلاد ثورة دائمة في الاقتصاد وصناعة المال، وآخرها صناعة "المشتقات" المالية التي يعادل حجمها عشرة أضعاف السلع المنتجة عبر التاريخ. و"المشتقات" كالنكتة عن أسد مفترس يلاحق عالِمَ رياضيات وفيلسوفاً. حسِبَ العالمُ المسافة، وهتف بالفيلسوف الذي كان يهرول أمامه: "لا نفع في مسابقة الأسد فهو لاحق بنا لا محالة"، صاح الفيلسوف دون أن يلتفت إلى الخلف: "أنا لا أحاول أن أسبقه بل أن أسبقك". وهذا هو وضع المصارف العالمية، تلخصه كلمتان "الطايح رايح". بعد نحو ثلاث سنوات على انهيار المصرف الأميركي العملاق "ليمان بروذرز"، لا يُعرف من الضحية القادمة، وقد يكون أكبر المصارف الأميركية "جي مورغان" الذي أعلن أخيراً عن خسارته ملياري دولار، "وربما ثلاثة مليارات، أو خمسة، أو أكثر، فمن يحسِبْ"، يقول ذلك كروغمان عالم الاقتصاد الأميركي الحائز على جائزة "نوبل". ومن دون الأرقام العربية كيف كانت مؤسسة التصنيف الدولية "مودي" ستخفض أخيراً مرتبة 27 مصرفاً إيطالياً و16 مصرفاً إسبانياً، بينها الكتلة المصرفية "بانكيا" التي نشأت عن تأميم سبعة مصارف كبيرة؟ وخَفضُ التصنيف يعني خفض أهم قدرات المصارف، الاقتراض والإقراض. حكومةَ مدريد سارعت حال الإعلان عن خفض تصنيف "بانكيا" إلى تكذيب الأنباء عن سحب المودعين مليار يورو. وفي اليونان حيث خُفضت القدرة الإقراضية للبلد نفسه من مرتبة "بي" إلى "سي سي سي"، سحب المودعون ترليون دولار منذ الانتخابات مطلع هذا الشهر. وصدِّقْ أو لا تصدِّق الرئيس اليوناني بابوليس الذي أعلن ذلك وحذّر من أن نفاذ الأموال في المصارف يهدد الوجود الوطني لليونان نفسها. وكما في الماضي البعيد تشرق حكمة الإغريق على العالم. رئيس مكتب الموازنة البريطانية "شوت" حذّر من أن الكساد الاقتصادي العميق سيكون مختلفاً هذه المرة عن أزمة 2008، ولن يكون قابلاً للإصلاح. "يعني أن الاقتصاد لن يضعف ثم يقوى، كمن يدخل في ثقب ويخرج منه، بل السقوط في الهوة وعدم الخروج منها قطُّ". وكما في الأساطير الإغريقية، فإن مصير الاقتصاد الرأسمالي معلّق بـ"اليورو"، ومصير "اليورو" معلق بمصير اليونان، ومصير الجميع معلق بيد شاب شيوعي يساري فاز حزبه بالمرتبة الثانية في الانتخابات مطلع هذا الشهر. "ألكسي تسيبراس" (37 عاماً) يقود مجموعة يسارية ساير على هواها اسمها "سيريزا"، ويعني باليونانية "إلى الجذور". تضم المجموعة شخصيات وأحزاباً غيفارية، وماوية، وتروتكسية، وتيارات الخضر، والشيوعية الأوروبية. أي باختصار خلطة "زوربا" بطل رواية كازنتزاكي، الذي يبشر: "بالأمل وحده نستطيع بلوغ ما بعد الأمل". واليونان اليوم ما بعد الأمل، ومنه أعلن "تسيبراس" عزمه على وقف سياسة التقشف التي فرضها المقرضون على اليونان، ووصفها بأنها "جريمة بحق الشعب اليوناني". وعلى خلاف تيارات اليسار الهرمة، لا يعاني "تسيبراس" من التأتأة بل يعلن بلسان حر طليق الكفاح ضد الرأسمالية. "العمال على جانب ومعهم أغلبية الناس وعلى الجانب الآخر الرأسماليون العالميون، والمصرفيون، والمضاربون على أسعار الأسهم، وصناديق الاستثمارات". وينطق "تسيبراس" باسم جيل اليسار الثوري الجديد حول العالم عندما يرفض صورة البطل المنقذ، وعندما يستعيد مشاعر الكرامة الوطنية التي فرّطت بها الأجيال القديمة: "أنا أؤمن بالكفاح من أجل الحقوق، ولا أحد يملك الحق في الحطّ من مكانة شعب فخور إلى هذه المنزلة المزرية والمهينة". وارتَعَدتْ أوروبا العجوز عندما قفزت حصة التحالف اليساري في الانتخابات خمسة أضعاف من 5 في المئة إلى أكثر من 25 في المئة. وفي مواجهة رهبة الانتصار المفاجئ لم يتردد "تسيبراس" في القول: "تسألوني ما إذا كنت أخاف. كنت سأخاف لو واصلنا السير في المسار الذي يؤدي إلى الجحيم الاجتماعي". وكأنه كازنتزاكي يردّ على التحذيرات من الدورة الثانية للانتخابات الشهر المقبل: "الهزيمة هي المعركة التي لم نخضها". و"تسيبراس" مهندس درس الاقتصاد أيضاً، ويتحدث بلغة الاقتصادي الإنجليزي المشهور كينز عن مسؤولية الدَّين التي لا تقع على عاتق المدين فقط بل الدائن أيضاً. "إذا كنتَ مديناً بمبلغ 5 آلاف دولار للبنك فهذه مشكلتك، لكن إذا كنت مديناً بمبلغ نصف مليون دولار للبنك فهذه مشكلة البنك". والمشكلة في تقديره عامة "مشكلة اليونان، ومشكلة ميركل، ومشكلة أوروبا، ومشكلة العالم". وإذا كان هذا يبدو جنوناً فإنه ليس جنون شباب اليسار وحدهم، بل جنون العقلاء أيضاً، وبينهم كروجمان الذي لم يتعب من التأكيد منذ بدء الأزمة على أن التقشف هو الداء وليس الدواء. وفي مقالة أخيرة في "نيويورك تايمز" عنوانها "دقّت ساعة الحقيقة في أوروبا"، اعتبر كروجمان "تقشف أوروبا استقطاعات وحشية في الإنفاق بهدف طمأنة أسواق الأسهم. وهذه الاستقطاعات تعمق الركود الاقتصادي في أوروبا، والذي يقضي في آن على ثقة المستثمرين ويؤدي إلى تفاقم الاضطراب السياسي". ولولا الأرقام العربية لما اختُرعت طريقة حساب العقود المالية، وهي في غمرة الحركة، أي كبيع وشراء الرهانات على خيول السباق فيما هي تركض. وهذا عمل "المشتقات" التي اخترعتها معادلة رياضية مشهورة باسم واضعيها "بلاك-شوهل" ونالا عنها جائزة "نوبل". حطّمت "المشتقات" أسواق العقارات والمصارف، وهي ليست أموالاً أصلاً، ولا هي سلع حقيقية، بل مشتقة منها، فهي استثمارات في الاستثمارات، ورهانات على الرهانات، ويبلغ مجموعها حالياً كوادريليون دولار. والكوادريليون الذي سنسمع عنه كثيراً يتكون من رقمين عربيين، الواحد وعن يساره 15 صفراً، وهو يعادل عشرة أضعاف إجمالي إنتاج السلع في العالم عبر التاريخ كله، حسب عالم الرياضيات البريطاني إيان ستيوارت. وأطلقت المشتقات فورة الازدهار الاقتصادي العالمي، لكنها أودت بالأسواق المالية، وأوجدت ما يسمى "تجسب" الأرصدة أو "يبوسة" النسيئة، وتعني باختصار عدم وجود نقود عينية لتغطية ثروات لا وجود حقيقي لها. وحسابات واشنطن الخاطئة التي أدت إلى انهيار النظام المصرفي العالمي سببها جهل الرئيس السابق بوش بعلم "الجبر" الذي اخترعه الخوارزمي في بغداد في القرن التاسع الميلادي. اعترف بوش بذلك عندما اعتذر خلال زيارته للجزائر عن عدم الحديث بلغة الجزائريين لأنه ضعيف في "الجبر" منذ أيام المدرسة. وهذه نكتة، وأظرف نكتة عن بوش حسابية أيضاً، وذلك عندما أخبر والده بأن أمه الحامل بمولودها الرابع ستلد صينياً. بهت الأب "ماذا تقول"! أجاب بوش "الصحف ذكرت أن كل رابع مولود يلد هذه الأيام صيني"!