بدأت مصر الثورة السير بخطوات حثيثة نحو صياغة ديمقراطية مصرية جديدة على غير مثال. وها هي عملية انتخابات رئاسة الجمهورية التي بدأت وقائعها أمس تدور بكل ما في هذه المعركة التاريخية من تنافس وصراع، بين تيارات إيديولوجية متعارضة، وبين أشخاص متباينين في خلفياتهم السياسية وتواريخهم الشخصية. ولعل الصراع الأساسي الذي يدور في المجتمع منذ ثورة 25 يناير، والذي تبلور بعد فوز حزب "الحرية والعدالة" من ناحية وحزب "النور السلفي" من ناحية أخرى، بأكثرية مجلسي الشعب والشورى، هو بين أنصار الدولة المدنية وأنصار الدولة الدينية. أنصار الدولة المدنية يريدون تأسيس دولة ديمقراطية عصرية يحكمها مبدأ سيادة القانون، ويستظل بشجرتها الوارفة كل المصريين بغير أدنى تمييز بينهم في ضوء مبدأ المواطنة. وهذا المبدأ هو من الميراث الديمقراطي المصري، والذي تجلى في دستور عام 1923 حين نص بصورة صريحة على أن المصريين سواء أمام القانون ولا تمييز بينهم. وهذه الدولة المدنية تعد امتداداً في الواقع للتراث الليبرالي المصري الذي تبلور ابتداء من دستور 1923، واستمر حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952. وقد أدت الثورة -التي كانت لنشوبها أسباب موضوعية تجلت في الموقف الثوري الذي نشأ في أواسط الخمسينيات في مصر- إلى قطيعة تاريخية جمدت المسار الليبرالي أفكاراً وأحزاباً ومؤسسات، وفتحت الباب أمام نظام سلطوي يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والرقي بالطبقات الفقيرة والمتوسطة التي عجزت الوزارات المتعددة في ظل الحكم الليبرالي عن إعطائها حقوقها المشروعة. وبعبارة أخرى عجز النظام الليبرالي عن حل "المشكلة الاجتماعية" التي تفاقمت قبيل ثورة 23 يوليو، ونعني بها الفجوة الطبقية الكبرى بين من يملكون ومن لا يمتلكون في ريف مصر وحضرها، كما أنه عجز أيضاً عن حل "المشكلة الوطنية" ونعني إجلاء قوات الاحتلال الإنجليزي التي جثمت على صدر البلاد سبعين عاماً كاملة. وقد قطعت ثورة يوليو 1952 إذن المسار الليبرالي المصري، الذي كان مقدراً له أن يتطور ويتلافى الأخطاء السياسية القاتلة التي ارتكبتها النخبة الليبرالية بحكم أنانيتها السياسية، وقصر نظرها التاريخي. وهكذا بدأت مسيرة النظام السلطوي المصري منذ ثورة يوليو 1952، وقد انتقل من عهد عبدالناصر الذي ساده نظام الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي العربي) إلى عهد أنور السادات الذي ألغاه وفتح الباب أمام تعددية سياسية مقيدة، وصولاً إلى عهد الرئيس السابق مبارك الذي قنن السلطوية المطلقة، وهمَّش كافة الأحزاب السياسية المعارضة، بل إنه قنن الفساد الذي أصبح علامة من علامات نظامه، ووصل إلى ذراه بالزواج المحرّم بين السلطة والثروة! ومن هنا فأنصار الدولة المدنية إنما يبنون مشروعهم الجديد مستندين في ذلك إلى تراث ليبرالي كانت له في زمانه إنجازات فكرية باهرة، لأنه أعلى من سلطة العقل إيماناً بالفكرة الحداثية الأساسية "أن العقل وليس النص الديني هو محك الحكم على الأشياء". كما كانت له إيجابيات سياسية متعددة عوقتها تدخلات القصر ممثلة في الملك "فاروق"، والإملاءات السياسية للسلطة الإنجليزية المحتلة، التي بلغت ذروتها بحادث 4 فبراير الشهير الذي فرضت فيه السلطة على الملك تكليف مصطفى النحاس باشا زعيم حزب "الوفد" وهو حزب الأغلبية بتشكيل الوزارة. غير أن هذه الدولة المدنية الليبرالية التي تشكلت عقب صدور دستور عام 1923، وقفت في وجهها تيارات دينية تقليدية رفضت إنجازات الحداثة الغربية، وهاجمت بعنف شديد كبار المفكرين الذين أرادوا تطبيق مقولات المنهج النقدي على التراث، وهكذا هوجم المفكر التنويري العظيم طه حسين، لأنه أصدر كتاب "الشعر الجاهلي"، وفصل من الجامعة عقاباً له على أنه أعمل المنهج النقدي في دراسة التراث. كما هوجم أيضاً الشيخ علي عبدالرازق لأنه اجتهد في مجال العلاقة بين الدين والسياسة في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" على غير هوى الجماعات الدينية التقليدية الجامدة. غير أنه يمكن القول إن أكبر تحدٍّ واجه الدولة المدنية الديمقراطية في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات هو تشكيل "حسن البنا" رحمه الله لجماعة "الإخوان المسلمين" عام 1928، التي قدمت نموذجاً مضاداً للدولة المدنية الديمقراطية، لأن مشروعها الاستراتيجي كان يتمثل في تأسيس دولة دينية تطبق أحكام الشريعة الإسلامية. ولا نريد أن ندخل في تفصيلات الصراع الدامي بين جماعة "الإخوان المسلمين" والنظام الليبرالي، الذي ارتكب الجهاز السري الذي أسسه "البنا" جرائم اغتيالات متعددة لمن اعتبروا خصوماً للجماعة، وأولهم المستشار "الخازندار" الذي حكم على أعضاء الجماعة، وثانيهم "النقراشي" باشا رئيس الوزراء. وقد أدت هذه الأعمال الإرهابية إلى حل الجماعة عام 1948، وتم اغتيال "حسن البنا"، وكان ذلك علامة مبكرة على أن الصِّدام بين الدولة المدنية الديمقراطية وأنصار الدولة الدينية يمكن أن يكون صداماً داميّاً يقع فيه الضحايا بالعشرات. غير أنه إذا كانت جماعة "الإخوان المسلمين" قد تجمد نشاطها في الحقبة الناصرية بحكم اعتقال أعضائها، إلا أنها عادت للظهور في عهد الرئيس السادات الذي أراد أن يفسح لأعضائها مجال العمل السياسي ظناً منه أنه يمكن أن يوازن بهم القوى الناصرية واليسارية التي كانت تعارض سياساته. غير أنه ظهر نبت جديد لأنصار الدولة الدينية تمثل في "الجماعة الإسلامية" و"جماعة الجهاد". وهاتان الجماعتان مارستا الإرهاب بشكل شديد الشراسة سواء ضد المدنيين المصريين أو ضد السياح الأجانب. ودار الزمن دورته بعد أن نجح نظام الرئيس السابق مبارك في قمع هذه الجماعات الإرهابية التي خرج أنصارها من السجون، بعد أن قاموا بعملية نقد ذاتي محمودة في ذاتها، من خلال سلسلة من كتب المراجعات التي اعترفوا فيها بأخطائهم وأعلنوا توبتهم عن استخدام العنف. وها هم الآن في الساحة المصرية قد شكلوا أحزاباً سياسية مدنية، ويبدو خطابهم -ويا للغرابة- أكثر اعتدالاً من خطاب جماعة "الإخوان المسلمين" والتيارات السلفية! والراهن أن الصراع السياسي الرئيسي في مصر الآن لا يدور حول شخص رئيس الجمهورية في الواقع أيّاً كان، ولكن حول خيار "الدولة المدنية" الذي يمكن أن يؤسس لديمقراطية مصرية عصرية تنسجم مع الأوضاع العالمية، أو خيار "الدولة الدينية" التي يسعى أنصارها إلى استعادة نظام الخلافة وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بطريقة استخدام القياس الخاطئ والتأويل المنحرف! على الشعب المصري أن يختار! Summary