في الليلة التي انتصر فيها فريق "مانشستر سيتي" ببطولة الدوري الإنجليزي تغيرت مفاهيم، ورسخت صور تجريبية، كانت عبارة عن نظريات حالمة تحتاج إلى تطبيق نموذجي في عالم العلاقات أو لغة سوق التسويق الدولية واستثمار النجاح. فما عادت كرة القدم مجرد رعاية ولعبة وجماهير فرحة في حالة الفوز وناقمة في حالات الخسارة، إنها أكبر من ذلك، فهي مشروع يحتاج إلى مجهودات ورؤية ومتابعة، وأيضاً هي جزء من إستراتيجية العولمة في وجهها الإيجابي، وتعنينا كثيراً في دولنا العربية تحديداً تجربة الاستفادة من هذا المشروع وتكراره، فهو "أروع مؤشر حتى الآن على التأثير المتزايد للشرق الأوسط على ساحة كرة القدم الأوروبية"، كما قالت قناة "سي أن أن" في تقريرها المطول عن الفوز. حدث البطولة التي جاءت بعد 44 عاماً من الانتظار، جعل بلداً مثل بريطانيا يرقص فرحاً، معترفاً بأن ذلك الانتصار لم يكن ليتحقق لولا دعم أبوظبي، وأن الشخصية التي صنعت هذا المجد هو مالك النادي سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير شؤون الرئاسة. غيّرت المملكة المتحدة في تلك الليلة وجهها البارد جامد الملامح إلى آخر أقل حدة، عليه علامات رضا وفخر بصناعة مجد شارك فيه غيرها. لا أحد مثل الإعلام الإنجليزي عندما يكابر، هكذا هي صورته النمطية عندما ينظر للآخر، فهو لا يرى إلا ما يريد أن يراه هو. فمنذ أن أقدمت أبوظبي على مشروع شراء وإنقاذ نادي مانشستر سيتي، وبعض هذا الإعلام يمارس دوره في كل مناسبة أو حتى من غير أسباب، يشكك، ويحبط... فلم ير في المشروع سوى أنه المال العربي جاء ليشتري أمجادهم ويفسد رياضتهم! لم ينظر إلى واقع النادي والصفقة التي جاءت لتنقذه من الإفلاس وتحد من انزلاقه إلى مزيد من الهزائم والسقوط المدوي، لم يراع تلك الأهمية التي دخل بها رأس المال العربي لينقذ أحد أشهر أنديتهم. عندما فاز النادي وعاد له الوهج، وبريق النجوم الأبطال، كانت تلك الشخصية الإنجليزية أول من يعترف بهذا النجاح الذي قاده المال العربي، فرفعت قبعتها التقليدية شكراً وعرفاناً للشيخ منصور الذي أوصلهم لهذه المكانة التي حاول مانشستر سيتي الاقتراب منها، في عمر زمني يقارب نصف قرن، ولدت خلاله أجيال ورحلت أجيال كانت تحلم أن تعيش مثل هذه اللحظة. كسر الغرور كان واحداً من الانتصارات في مشروع مانشستر الرياضي، والذي لم يسع إليه المستثمر، إذ لم تكن تعنيه كثيراً إشكالية العقدة النفسية الإنجليزية. لكن الأهم في المشروع كان كيفية صناعة النجاح، كيف تنقذ مشروعاً خاسراً، تهدده المخاطر من كل صوب، وفي مغامرة دولية ليست سهلة وسط تربص الصحافة وهتافات التشجيع التي تتراوح بين السخط الشديد أو الفرح الشديد أيضاً، حسب نتيجة أية مباراة يلعبها فريقك الذي تراهن عليه. من أهم المكاسب كذلك السمعة الدولية التي تحققت، والتي ارتبطت بالانتصار ووصفة صناعة النجاح. وأيضاً التسويق الدولي الذي سيعود على اسم ومكانة أبوظبي، فلو أن الإمارة رصدت ضعف المبلغ الذي استثمرته في النادي الإنجليزي في برامج ومشاريع أخرى وعلى مدى سنوات طويلة، وفي أسواق مختلفة، لما حصلت على هذا التسويق الدولي الناجح الذي حققه فوز الفريق، بهذه السرعة، وهذه القوة والانتشار وهذه الجماهيرية التي طافت العالم وعند مختلف الشرائح، فأي وسيلة تسويقية أخرى في هذا العصر يمكنها أن تحقق لك هذا النجاح الذي تصنعه كرة القدم العالمية؟ كيف رسم هذا الانتصار صورة ذهنية جميلة مفرداتها النجاح والبطولات والإعجاب بأبوظبي والشخصية الإماراتية المبتسمة التي نقلها الإعلام في شخصية الشيخ منصور والتي يمكن أن تقود نادياً عريقاً إلى مجد جديد. كرة القدم كانت وستظل اللعبة الأشهر والأكثر جماهيرية عند مختلف الأجيال وفي مختلف البلدان، إنها لغة عالمية يفهمها ويعشقها الجميع. عندما يلعب الكبار يحبس العالم أنفاسه، رؤساء الدول ومشاهير المجتمعات وكذلك البسطاء والفقراء، لا يتحدثون إلا عن هذه اللعبة وسحر اللعبات التي يقوم بها أبطال الملاعب. هذه الكرة ولعب الكبار يتحول إلى مهرجان وحالة مجتمعية مميزة في مختلف المجتمعات. مجمعات ومقاه وحشود من مختلف الجنسيات والألوان، مجالس تضم الكبار والصغار تفتح في أوقات مختلفة لهدف وحيد هو السهر لمتابعة المباراة. وقبل اللعب وبعده يتواصل تحليل الجمهور الخبير ونقاشاتهم الساخنة. وهناك لابد من حفلات وحلويات وأعلام ومسيرات في الختام يقدمها أنصار الفريق المنتصر. وأكثر من ذلك، فثمة مئات العشاق من هنا، من الإمارات مثلاً، يسافرون في العام عشرات المرات بهدف حضور مباريات فريقهم الأوروبي أينما يكون، يسافر بعضهم وقد يكون شاباً يدرس في الجامعة أو موظفاً متوسط الدخل ليجلس في المدرج يهتف لناديه ثم يركب طائرته ويعود في نفس الليلة، فهذا ما يفعله جنون عشق كرة القدم بهم، وهناك الآلاف من هؤلاء الجماهير في مختلف أنحاء العالم يقومون بنفس المهمة، السفر لمهمة حضور مباراة فريقهم. عندما نجد فريق مانشستر سيتي يصعد، وهو يحمل اسم أبوظبي التي حققت له سبل النجاح، ويبرز شعار طيران الاتحاد راعية الفريق، والتي يحمل استاد النادي اسمها... عندما يقرر ناد عالمي عريق في وزن ريال مدريد أن يستثمر في مشروع سياحي ضخم بمدينة رأس الخيمة، وعندما تكون طيران الإمارات الشريك الرسمي لكأس العالم أو ترعى فرقاً مثل ريال مدريد أو الأرسنال أو أي سي ميلان، أو عندما يأتي نجم في وزن مارادونا ليدرب ناد إماراتي... فهذا يعني أننا دخلنا عالم الاحتراف، والتسويق الدولي الذكي الذي يراعي النوعية، ويدرس جدوى وأهمية هذه الشراكات. فهذه صفقات ضخمة لا يقدم عليها سوى الكبار ومن يملكون المال والجرأة أيضاً. لكن استثمارات وطموحات الإمارات في عالم الرياضة الدولية تحتاج إلى من يبحث نتائجها ويحلل مدى الجدوى التي تحققت من هذه الصفقات، وبلغة الأرقام التي هي أبلغ دليل على حجم الإنجاز وأهمية المكاسب التي تحققت، واقتراح الخطوة التالية. إن عالم الكرة اليوم لا يقل إثارة عن فعل صنيع السياسة، لكنها إثارة مختلفة فيها تحفيز ونجاحات وبطولات وأيضاً عوائد مادية وأدبية، وجماهير متعطشة للفوز... دائماً.