لعل أعضاء حلف شمال الأطلسي الذين عقدوا قمتهم بمدينة شيكاجو الأميركية يوم أمس الأحد أثاروا موضوع إمكان تدخل تحالف دولي في سوريا، مع تركيز خاص لتركيا على هذه القضية ودفعها لتتصدر الأجندة. فتركيا تُعتبر نموذجاً للديمقراطية في العالم الإسلامي. وفي هذا السياق كانت سباقة لدعوة الرئيس الأسد إلى التنحي بعد اندلاع الاحتجاجات وتوحيد المعارضة السورية لضمان مرحلة انتقالية. هذا ناهيك عن لجوء عشرات الآلاف من السوريين إلى تركيا، حيث تعرضوا في الشهر الماضي لعملية إطلاق نار عبر الحدود مع بلادهم، ما دفع رئيس الوزراء التركي أردوجان إلى تحذير السلطات السورية قائلاً: "نحن لدينا قوات مسلحة قوية... وعلى سوريا أن تدرك أنه في حال تكرار حوادث إطلاق النار عبر الحدود، فإن ردنا لن يكون سهلاً". لكن السؤال هو: هل الجيش التركي قوي فعلاً إلى هذه الدرجة؟ وهل تركيا هي ذلك النموذج الديمقراطي الذي يعتقده البعض؟ الحقيقة أنه لو كانت الديمقراطية في بلد ما تقاس بعدد الجنرالات الذين تم اعتقالهم، لاحتلت تركيا المرتبة الأولى باعتبارها أكثر الدول ديمقراطية في العالم، ذلك أن اعتقال كبار الضباط في الجيش التركي استمر لسنوات مع انطلاق موجة جديدة من الاعتقالات مطلع شهر أبريل المنصرم عندما داهمت الشرطة منازل عدد من الجنرالات المتقاعدين. وجاءت تلك الاعتقالات كجزء من تحقيق تجريه السلطات التركية فيما يعتقد أنه انقلاب كان العسكريون يسعون إلى تنفيذه عام 1997 للقضاء على حكم حزب إسلامي سابق على "العدالة والتنمية". لكن التحقيق في انقلاب 1997 ليس سوى حلقة في سلسلة ممتدة من التحقيقات يجريها جهاز القضاء المتعاطف مع حكومة "العدالة والتنمية"، ومن تلك التحقيقات أيضاً هناك ما يُعرف بقضية "إيرجينكون" التي انطلقت في 2008 وتحولت إلى عملية قضائية ممتدة اعتُقل على هامشها أكثر من 250 شخصاً، بمن فيهم جنرالات وسياسيون وأكاديميون، يجري التحقيق معهم بتهمة الانضمام إلى منظمة سرية تخطط لقلب نظام الحكم الذي يمثله حزب أردوجان. ثم هناك قضية "المطرقة" التي يتم فيها التحقيق مع المئات من الضباط المتقاعدين ومن الذين ما زلوا في الخدمة بتهمة محاولة الانقلاب على النظام عام 2003. والمشكلة أن المئات من هؤلاء المعتقلين يقبعون وراء القضبان دون تقديمهم للمحاكمة، وعلى رأسهم القائد العام السابق للقوات المسلحة التركية وقائدا سلاحي البحرية والجو. والأهم من ذلك أن عدد الجنرالات الموقوفين على ذمة التحقيق في هذه القضايا المختلقة يصل إلى ستين جنرالاً يمثلون 19 في المئة من كبار قادة الجيش التركي. وفي العديد من تلك التحقيقات تبرز جوانب عدة لانتهاك مبادئ الديمقراطية والحكامة الجيدة وسيادة القانون، ذلك أن أغلب هؤلاء العسكريين يقبعون في السجن دون صدور أحكام ضدهم، وهو ما دفع المجلس الأوروبي مؤخراً إلى التعبير عن انزعاجه من حجب أدلة التوقيف عن المتهمين خلال مراحل التحقيق التي قد تمتد سنوات دون النطق بالحكم، الأمر الذي يحرم المتهمين من فرصة الطعن في التهم والدفاع عن أنفسهم. هذا بالإضافة إلى ما كشفه خبراء مستقلون في البحث الجنائي من أن العديد من الأدلة الموجهة ضد المتهمين مزورة وغير حقيقية. أما الذين يشيرون إلى هذه التجاوزات في الصحافة التركية، فغالباً ما يتعرضون للمضايقة والتشهير من قبل إعلام حزب "العدالة والتنمية" المهيمنين على الساحة. ورغم تورط الجيش التركي سابقاً في العديد من محاولات الانقلاب على النظام وتحكمه في الحياة السياسة طيلة عقود، حيث نفذ الجيش أربعة انقلابات منذ ستينيات القرن الماضي، فإن العديد من المراقبين يعتقدون بأن المحاكمات الجارية حالياً قد تحولت إلى أدوات سياسية في أيدي من يتولون السلطة للضغط على المعارضة والتصدي للأخطار المتصورة التي تحدق في نظهرهم بحزب "العدالة والتنمية". وهنا تكمن المشكلة فيما يتعلق بالموضوع السوري، فرغم الحدود الطويلة المشتركة مع سوريا، وامتلاك أنقرة لثاني أكبر قوة مسلحة في حلف شمال الأطلسي، وكونها ذات دور أساسي، سواء تعلق الأمر بتدخل عسكري مرتقب أو بإنجاح خطة كوفي عنان الأممية، يبقى أن الديمقراطية التركية ومؤسساتها، بما فيها الجيش، تعاني من الضغط في ظل التهم الموجهة لأفراد الجيش وفترات الاعتقال الطويلة دون أحكام، فضلاً عن حملات التشهير الواسعة التي تطال خصوم حزب "العدالة والتنمية". فاعتقال المئات من الضباط، بمن فيهم أفراد من القوات الخاصة على أيدي شرطة مكافحة الإرهاب، وإهانة كبار الجنرالات من قبل الإعلام التابع للحزب، يضعف الروح المعنوية للقوات المسلحة ويؤثر على درجة انضباطها، والأكثر من ذلك قد يواجه الجيش التركي، الذي يفتقد إلى خمس كبار ضباطه، تحديات جمة في دعم أي تدخل عسكري دولي في سوريا. لذا يتعين على حكومة "العدالة والتنمية" التوقف عن المس بسيادة القانون وضمان تقيد الشرطة والقضاء بمعايير الحكم الديمقراطي والحرص على عدم توظيف المحاكم لاستهداف الخصوم الأيديولوجيين، كما يتعين على الحكومة إقران كلامها عن الديمقراطية في الخارج بأفعال تؤكدها في الداخل، وإلا ستجد تركيا نفسها جزءاً من عصبة الدول شبه الديمقراطية وتفقد نفوذها في المنطقة. مراد أونور كاتب ومعلق سياسي تركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"