سمعتُ هذه العبارة مراراً في الأيام الأخيرة عن شبان مشاركين في الثورة السورية، قاتلوا في بابا عمرو والخالدية والقصير وتل كلخ ثم ماتوا في الرستن، وهم جميعاً في العشرينات من أعمارهم. وهكذا فقد تحولت الثورةُ السورية إلى يومٍ واحدٍ طويلٍ من التظاهُر والقتل والاعتقال والتهجير، في سائر أنحاء البلاد وبدون استثناءٍ لدمشق وحلب كما كان يحدث من قبل! على جبهة النظام هناك نوع من "الاستقرار". فقد تضاءلت أعمال الهيئات الأمنية والشبيحة، واقتصرت مهامُّها على الاعتقال والتعذيب، وانفرد الجيش بالأعمال القتالية، وهي الفِرَقُ المضمونةُ الولاء، أما الفِرَقُ الأُخرى التي لم تتفكك فتقتصر أعمالُها على المراكز الثابتة، وهي التي لا تزال تحدث فيها الانشقاقات. وهكذا فهناك عدد يتراوح بين مائة ومائة وعشرين ألفاً من مقاتلي النظام على الأرض، وهم مقسَّمون إلى ثمانية أو تسعة قطاعات يختص كلُّ قطاع بمنطقة ثائرة، فلا يحتاج إلى الحركة لمسافات طويلةٍ إلا في حالاتٍ نادرة. والإيرانيون والعراقيون و"حزب الله" يمارسون أعمالاً لوجستيةً وقياديةً كثيرة وكبيرة. لكنهم لا يتحركون على الأرض. إنما هناك أخبار تقول إن عناصر من "حزب الله" احتلت قُرىً في منطقة القصير قبل أسبوعين، ولا تزال فيها. والإيرانيون والعراقيون وبعض الجهات الموالية تدفع للنظام مليار دولارٍ شهرياً لإعانته على الصمود، هذا بالإضافة إلى شحنات الأسلحة المتوسطة والثقيلة الآتية من إيران باستمرار، فضلاً عن نوعيات معينة من روسيا. ولا تزال للنظام السوري متنفَّسات مالية من لبنان والعراق وتركيا أحياناً. ويدلُّ كلام الأسد قبل يومين على أنّ النظام وطَّنَ نفسَه على حربٍ طويلة الأمد اعتماداً على إيران وروسيا والعراق ولبنان: روسيا للموقف الدولي بمجلس الأمن، وإيران والعراق ولبنان للمساعدة المالية والعسكرية والاستخباراتية. وقد سخر بعض المعلِّقين من كلام الأسد الذي هدَّد فرنسا بنشر الاضطراب فيها إن استمرت في التدخل ببلاده كما فعلت من قبل! لكنّ الفرنسيين يعرفون أن نظام الأسد كان يرسل عناصر تفجّر بفرنسا وغيرها، ثم يعطي معلوماتٍ عن بعضهم للسلطات الفرنسية إظهاراً للتعاوُن وكسْباً للود. وهو يفعلُ ذلك بالداخل السوري منذ شهور، ثم يصرخ شاكياً من الإرهاب، فتستجيب له الولايات المتحدة وإسرائيل، ويشاركونه الحديث عن "القاعدة" والإرهاب الذي تمركز في سوريا ولبنان من جديد! ولا إرهاب منذ سنوات بسوريا ولبنان والعراق إلا عن طريق النظام السوري وأعوانه والعناصر التي يرسلها. وقد قال مندوب النظام السوري بالأمم المتحدة قبل أيام إنه سلَّم الدول الأعضاء بمجلس الأمن قائمةً بأسماء إرهابيين انتشروا في سوريا ولبنان وغيرهما! ثم ظهر المقصود بذلك، وهو أنها عناصر "أطلقت إيران سراحها"، وأتت عبر سوريا إلى لبنان، حيث ورَّطت المولوي وزملاءه والأجهزة الأمنية اللبنانية. وعندما أَوشكت الأحداث أن تخمد بالمدينة المعذبة، بدأ القصف عليها من جبل مُحسْن الذي تأتمر عناصره بـ"حزب الله" والاستخبارات السورية. فلو لم يكن هناك سببٌ للخلاص من النظام السوري غير مكافحة الإرهاب والفِتَن الداخلية، لكان ينبغي المسارعة للقيام بذلك! أما بشأن الثورة السورية، فلا جديد في الحراك على الأرض سوى الدخول القوي لحلب. أما المناطق الثورية الأُخرى فإنها ما خمدت، إنما ازداد فيها النشاط العسكري من جانب الثوار، وهي: حمص ومناطقها، وإدلب ومناطقها، وحماة ومناطقها، ودرعا ومناطقها، ودمشق وريف دمشق، ودير الزور ومحيطها. و"الجيش السوري الحر" يزداد عدداً وعُدَّةً، وليس عبر الانشقاقات وحسْب، بل وبدخول مجندين سابقين إليه. لكنه يبقى على مستوى المناطق وأحياناً البلدات والقرى من خلال تنظيمات الكتائب. والروايات متناقضةٌ بشأن تسليحه في الشهرين الأخيرين. لكنه لا يبدو فعّالاً حتى الآن إلاّ في مواجهة قوات الأمن والشبيحة والمراكز العسكرية الثابتة والصغيرة الحجم. إنما له وظيفةٌ أُخرى قد تظهر آثارُها في الشهور المقبلة، وهي تأمين المناطق التي ينسحبُ منها الجيش النظامي، فيما يشبهُ اصطناعاً لخطوط تماس بدأت تحدث وستتزايد مع انقضاء خطة عنان. بيد أن التنسيقيات تبقى عصب الثورة وقوتها المتصاعدة، فهي لا تنظّم التظاهرات فقط، بل ترعى سائر شؤون الحياة والعيش في المناطق الثائرة، وتساعد المصابين والمعتقلين، وتتلقى المساعدات، وتنقل الأخبار إلى الخارج الإعلامي والإنساني والدولي. وهناك كلام كثير عن "ماهية" هذه التنسيقيات ومن يسيطر عليها. وهذا سؤال مشروع ويستدعي التفكير والإجابة، لو كان الوضع بسوريا يشبه مصر وتونس أو حتى ليبيا واليمن، أي لو كانت هناك مناطق يسيطر عليها الثائرون. أما الواقع فهو أن التنسيقيات هي نهوض شبان رفضوا القتل والاعتقال، وتضامنوا بإمكانياتهم وإبداعاتهم وقدراتهم التنظيمية مع أهلهم وذويهم وأبناء وطنهم. وقد صدرت عن عشرات منهم كتب ومقالات وأحاديث في وسائل الاتصال. ولا يخلو الأمر من ميل حزبي أو سياسي لدى بعض الشبان لهذه الجهة أو تلك، لكن الحراك الثوري أعاد ترتيبهم، فانتهت سائر الحساسيات لدى أهل التنسيقيات. وإنما لم تنته بالطبع لدى جهات المعارضة التقليدية التي لديها دافعان: دافع المشاركة في الثورة من موقعها الحزبي، ودافع عدم القطيعة مع النظام. بيد أن المعارضة هذه لا علاقةَ لها بما يجري على الأرض، ولا تأثير لها غير استمرار تقسيم المعارضة بالخارج. أما قصة المعارضة الخارجية، فهي قصة ائتلافات المجلس الوطني. وللحزبيين الإسلاميين وغير الإسلاميين، كما للمستقلين، دور في أفكاره وبياناته وتحركاته. وقد أفاد الثورة في التواصل مع الجهات الخارجية، وفي استقطاب السوريين بالخارج والعرب بالمهجر، وحصل على اعترافاتٍ عربيةٍ وإقليميةٍ ودولية. لكنه ما استطاع الوصول إلى أمرين: التحول إلى قيادة فاعلة للحراك الثوري الداخلي، وإنتاج خطط وبدائل حاضرة ومستقبلية للوضع في سوريا. وبذلك فقد اقتصرت فوائده على أنه تحول إلى عنوانٍ للثورة يمكن مخاطبته من الجهات الرسمية والدولية والوكالات الإنسانية. ولأن هذه الأدوار كلَّها ما كانت كبيرةً ولا مؤثّرةً في مسار الثورة ومصيرها، فقد ظهر التذمُّرُ منه لدى عدة جهات: الجهات الثورية الداخلية (التنسيقيات) التي أرادت دعماً أكبر بكثير ولم تحصل عليه. كما ظهر التذمُّرُ من أطراف سورية وعربية ودولية، أرادت أن لا يذهب المجلس الوطني باتجاه الدعوة للتدخل العسكري الخارجي أو حتى باتجاه الدعوة لمناطق آمنة. ولأن ذلك حصل فقد اعتبرته عدة جهات تابعاً لمحورٍ دولي، وتقصد به الولايات المتحدة التي تُصرُّ يومياً على القول إنّ التدخل العسكريَّ غير وارد! وظهر التذمُّر من الأطراف المعارِضة السورية الأُخرى، لأنها رأت فيه انتقاصاً لدورها ونضالها. والواقع أن طول زمن الثورة، وزمن المُعاناة قد يؤثّران في بقاء المجلس الوطني، لصالح نشوء قيادة بالداخل، وبخاصةٍ إذا توافرت مناطق سيطرةٍ معتبرة، وإن لم تكن "آمنة". لقد ثبت أنّ المجلس الوطني مفيد، لكنه غير ضروري بحالته الحاضرة. ولا شك أن المعاناة الطويلة في اليوم الطويل هذا للثورة في سوريا، إنما تعود إلى ثلاثة عوامل: تماسُك النظام حتى الآن، والتحالف الإقليمي الذي يستند إليه، والتردد الأميركي بسبب الحرص على أمن إسرائيل. وهذه العوامل متداخلةٌ وليست منفصلة، لذلك فإن حدوث اختلال في أحدها، ربما أدى إلى انهدام منظومة أمن النظام كلها وسقوطه. وحتى يحصل ذلك، فإن الأمور تبقى بالنسبة لشباب الثورة في سوريا بمثابة يوم طويل في حياة قصيرة!