"هولاند" يعيد اكتشاف أميركا... و"فابيوس" يواجه تحدي أوروبا! التوقعات بشأن دبلوماسية "فابيوس" الأوروبية، وجولة هولاند الأميركية، وتداعيات تسريع الانسحاب الفرنسي على المهمة الأفغانية، موضوعات ثلاثة استقطبت اهتمام الصحافة الفرنسية. دبلوماسية المفارقة دفع تعيين رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق لوران فابيوس وزيراً للخارجية في عهد الرئيس الجديد فرانسوا هولاند كاتب افتتاحية صحيفة لوموند، بل معظم كُتاب افتتاحيات الصحف الفرنسية الكبرى، إلى التوقف طويلاً أمام المفارقة الكامنة في هذا الاختيار، معطوفاً أيضاً على تعيين برنار جازونيف وزيراً منتدباً للشؤون الأوروبية، وذلك لكون الرجلين عرفا بمواقفهما المناهضة للمشروع الأوروبي في بعض أهم استحقاقاته المصيرية، فقد كانا تحديداً على رأس الكتيبة السياسية الاشتراكية المنافحة عن الـ"لا" في وجه الدستور الأوروبي في استفتاء 29 مايو 2005 الشهير، الذي أسقطه الفرنسيون بنسبة 54,68 في المئة، وعرف عن كافة الأحزاب الاشتراكية الأوروبية دعم مشروع الدستور ذلك، باستثناء الانشقاق الذي حدث حينها في صفوف الحزب الاشتراكي الفرنسي. ولكن السياسة مثل الحياة تقوم على غريزة النسيان، بقدر ما تقوم أيضاً على المفارقات! ولذا فإن الرئيس هولاند الذي كان من مؤيدي الـ"نعم" في ذلك الاستفتاء الأوروبي الحاسم، لم يتردد في اختيار خصمه ساعتها لكي يوكل إليه حقيبة الدبلوماسية الفرنسية الآن في واحدة من أكثر لحظات المشروع الأوروبي صعوبة ومصيرية. ولذا يتوقع من شركاء باريس الأوروبيين أن يشعروا بنوع من العجب من هؤلاء الفرنسيين الذين يغلبون روح العقلانية في كل شيء، يقول الكاتب، بما في ذلك افتراق الأمزجة والتوجهات والكيمياء الشخصية، لدى الساسة. ولكن ينبغي أيضاً ألا ينخدع الشركاء بشأن معنى ودلالة مثل هذه التعيينات. وإذا استنتجوا أن سياسة هولاند الخارجية تحمل في طياتها بذور مواقف مناهضة للمشروع الأوروبي فإنهم بذلك يكونون قد أخطأوا الاستنتاج. وذلك، مرة أخرى، لأن السياسة مثل الحياة ما هي إلا سوى حزمة متواصلة من المفاجآت، ولذا لا يستبعد أبداً أن يتحول فابيوس وقد حل بمقر الخارجية في قصر "كي دورساي" إلى داعم عنيد للمشروع الأوروبي في وجه كافة التحديات والمشكلات الراهنة. ويعرف عن فابيوس، مثل سلفه في المنصب آلان جوبيه، كونه أحد أكثر قادة هذا الجيل حنكة وبعد نظر. كما أنه أيضاً أحد أكثر ساسة الأسرة الاشتراكية خبرة ومراساً، وخاصة أنه في سياق عمل الحزب هو من كان يمسك بملف الشؤون الدولية. وفي سياق متصل أثار أيضاً الكاتب بيير روسلين في افتتاحية لصحيفة لوفيغارو مفارقة اختيار فابيوس على رأس دبلوماسية هولاند، زيادة عي اختيار "جازونيف" وزير دولة للشؤون الأوروبية، وهما المصنفان تقليديّاً ضمن التيار الاشتراكي غير الواقع كثيراً في هوى المشروع الأوروبي. غير أن الكاتب اعتبر أن في هذا الاختيار مسعى توافقيّاً يهدف للدفع بمصالحة سياسية ضمنية بين مختلف تيارات الحزب الاشتراكي الذي مزقت صفوفه استقطابات "لا" في استفتاء 2005 على الدستور الأوروبي. وبالنسبة للحظة الأوروبية الراهنة يبدو الهم الاقتصادي في الصدارة، ويتفق عليه الجميع، فمشكلة الديون السيادية، وخطر خروج اليونان من منطقة اليورو ليسا مما يمكن أن تختلف بشأنه الآراء في صفوف اليمين الاشتراكي الحاكم الآن. وقد أشار الرئيس هولاند نفسه إلى هذا الهم الاقتصادي الذي يلقي بثقله على الصدور وذلك في تصريح ألقاه أول من أمس وأشار فيه إلى أن الوقت الراهن ليس وقت التطلع إلى تحقيق تقدم سياسي في العمل الأوروبي من قبيل السعي لتمرير نص دستوري أو ما شابه ذلك، وإنما ينصب كل الاهتمام على استعادة ثقة الشعوب في أوروبا الاقتصادية. ومفهومٌ أن هذه لن تستعاد دون التغلب على المأزق المالي، واستعادة النمو من جديد. أما الكيفية الكفيلة بتحقيق كل ذلك فما زالت محل أخذ ورد بين هولاند وأبرز الشركاء الأوروبيين مثل ميركل، وما زالت المسافة بين مواقف الطرفين كبيرة إلى حد الآن. أميركا والاشتراكيون صحيفة لوموند نشرت افتتاحية أخرى بعنوان "اشتراكي فرنسي في واشنطن" قالت فيها إن زيارة هولاند إلى أميركا التي بدأت أول من أمس الجمعة، تعيد إحياء بعض الذكريات القديمة عن الطريقة التي تنظر بها بلاد "العم سام" إلى الاشتراكيين الفرنسيين، بشكل عام. فقبل 31 عاماً حين تم انتخاب فرانسوا ميتران باعتباره أول رئيس اشتراكي، انتابت حينها موجة قلق واسعة الأوساط السياسية في واشنطن. وذلك لأن الحرب الباردة كانت يومها على أشدها بين المعسكرين، الشرقي والغربي، وخاصة أن ميتران أقدم آنذاك على إدخال وزراء شيوعيين في حكومته. وزاد القلق أكثر حين انتهج أيضاً سياسات ذات مسحة اشتراكية قوية، مثل تأميمه لبعض الشركات الصناعية الكبرى. ولم يخف الأميركيون يومها مخاوفهم بشأن استمرار التزام باريس تجاه الحلف الأطلسي، وكذلك بشأن أمان الاستثمارات الأميركية في فرنسا. كما لم تخلُ المسألة أيضاً -تقول الصحيفة- من بعد شخصي، حيث كان ميتران في نظر الأميركيين لغزاً سياسيّاً إلى حدما، فهو رجل دولة ذو ثقافة أدبية رفيعة، وكان خطيباً مفوهاً يستطيع الحديث عن أي موضوع طيلة وقت طويل، وليس هذا ولا ذاك بالأمرين المألوفين لدى الطبقة السياسية في بلاد ما وراء المحيط الأطلسي. غير أن سنوات رئاسة ميتران أثبتت للأميركيين أن الزعماء الفرنسيين يمكن أن يكون الواحد منهم اشتراكيّاً وحليفاً للحزب الشيوعي، ولكن في الوقت ذاته أيضاً حليفاً قويّاً للولايات المتحدة. ولعل مثل هذا الانطباع المتعلق برسوخ تحالف باريس وواشنطن هو ما يسعى هولاند لتوليده لدى مضيفيه الأميركيين، وخاصة أنهم لا يخفون تأييدهم لمقاربته الاقتصادية المناهضة لسياسات التقشف الأوروبية المؤلمة، والساعية لتحفيز معدلات النمو. وأكثر من هذا أن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر خلال السنوات الأخيرة في واشنطن، حيث يحكم الآن أوباما وحزبه "الديمقراطي" وهما الأقرب إيديولوجيّاً للحزب الاشتراكي الفرنسي. ولذلك فإن كثيراً من المقولات التي بنى عليها هولاند حملته الانتخابية وخاصة فيما يتعلق بضرر سياسات التقشف الاقتصادي، هي ذاتها التي تدافع عنها إدارة أوباما منذ وقت طويل. وفي السياق ذاته وصف أيضاً الكاتب فرانسوا سيرجان في افتتاحية صحيفة ليبراسيون علاقات واشنطن وباريس بأن منطق المصلحة المتبادلة هو ما يحكمها في النهاية، مستدعيّاً في هذا المقام مقولة "بالمرستون" الشهيرة القائلة إنه "لا توجد صداقات دائمة في السياسة وإنما توجد مصالح دائمة". ويصدق هذا أيضاً على علاقات فرنسا مع مستعمراتها السابقة حيث يتوقع أن يضع هولاند وفابيوس حداً لما كان يسمى في عهد ساركوزي سياسة "فرانس- آفريك" القائمة على تأثير قوي لباريس في القرار السياسي لعواصم مستعمراتها الأفريقية السابقة. هولاند وأفغانستان نشرت صحيفة لوموند ملفاً موسعاً حول تداعيات تسريع الانسحاب الفرنسي من أفغانستان الذي وعد به هولاند خلال حملته الانتخابية، وآثار ذلك على بلاد الأفغان وعلى نظرة الحلفاء الغربيين لمدى انخراط فرنسا والتزامها ضمن الجهد الأطلسي بصفة عامة. وضمن هذا الملف كتب جان- بيير مولني، المدير المساعد لمركز البحوث الدولية والاستراتيجية في باريس، مقالاً تحليلياً بعنوان: "تسريع انسحاب الوحدات الفرنسية من أفغانستان لن يغير في الأمر شيئاً"، قال فيه إنه لا يتوقع أن تكون هنالك أصداء غير عادية لهذا القرار الفرنسي في قمة "الناتو" المقررة اليوم وغداً في شيكاغو. ومع هذا يتوقع، على كل حال، أن تمارس الولايات المتحدة ودول أخرى ضغوطاً على هولاند، وإن كان تغير موقفه ليس وارداً أيضاً. والحقيقة أن سحب الوحدات الفرنسية ليس هو ما يقلق واشنطن في حد ذاته، وإنما تقلقها آثاره المحتملة على مواقف بقية الحلفاء ونظرتهم لكيفية الوفاء بالالتزام الأفغاني وإنهائه في الموعد المتفق عليه سلفاً سنة 2014، بدل اتخاذ مواقف وتدابير من جانب واحد، وخارج أجندة القرار الجماعي الأطلسي. إعداد: حسن ولد المختار