ما جرى في عاصمة الشمال طرابلس، وهي العاصمة الثانية في لبنان مقلق وخطير جداً. لم تندلع الأحداث فجأة، ولم تأتِ من فراغ. طرابلس خصوصاً مدينة مظلومة، محرومة، فقيرة، فيها ثروات مالية كبيرة لكنها لا تستثمر في أي مجال تنموي. والدولة لم تفعل شيئاً للمدينة (رغم وجود رؤساء حكومات، ووزراء، ورؤساء مؤسسات مهمة ينتمون إلى المدينة(أضِف إلى ذلك تداعيات اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وشعور أبناء المدينة والمنطقة عامة لا سيما أبناء الطائفة السنية الكريمة بالاستهداف الدائم والاتهام الدائم لهم، ومحاولة تصويرهم كأنهم لا يريدون الدولة والقانون، أو هم متطرفون، علماً أنهم هم أنفسهم الذين شكلوا الحماية للجيش اللبناني والغطاء والدعم الكبيرين له لحسم حرب مخيم نهر البارد. لكن الحرب هذه وغيرها خلفت عدداً كبيراً من الموقوفين الذين يسمونهم بـ"الموقوفين الإسلاميين" الذين يحشرون في زوايا سجون مرعبة معيبة بواقعها المزري، ولا يحاكمون منذ سنوات وثمة مظلومية كبيرة بحقهم! هؤلاء لديهم أبناء وأحفاد وأخوة وأخوات وزوجات وأمهات وآباء وأقرباء، وبالتالي وراءهم الآلاف الآلاف أيضاً الذين يمتعضون ويتذمرون ويرفضون ظلم أبنائهم ولا يرون اهتماماً من الدولة. وهذا كافٍ بحد ذاته لتحريضهم وتحريكهم في أي اتجاه ضد الدولة غير العادلة وغير الراعية لأبنائها وحقوقهم. ثم جاء الحدث السوري وبدأ التحريض ضد طرابلس والشمال. صوّر الناس هناك وكأنهم إرهابيون يدعمون إرهابيين في سوريا! وكأن الحدث السوري يتم تحريكه من الشمال. وراحت الاتهامات تساق شمالاً ويميناً. وعمليات التحريض والاتهام والتخوين تنهال على الناس. وفي كل مرة يثبت أنها معلومات خاطئة مضللة باعتراف الأجهزة الأمنية والمجلس الأعلى للدفاع، ومع ذلك استمر الفريق الذي يحرّض ويتهم مصراً على الدور ذاته. وخلق هذا الأمر المزيد من التشنج. علماً أن هناك تهريباً تجارياً للسلاح كما أكد مجلس الدفاع الأعلى في مناطق لبنانية مختلفة. والمهربون لا هوية طائفية أو مذهبية لهم، ولا انتماء راسخاً لديهم. عندما يهرّبون،انتماؤهم هو "لمهنة" التهريب المتوارثة منذ عقود من الزمن على الحدود اللبنانية - السورية. كذلك فإن أحداثاً أمنية خطيرة شهدتها مناطق بعيدة عن الشمال، على الحدود مع سوريا، وطابعها الديموغرافي أو المذهبي مخالف تماماً لطابع منطقة الشمال عموماً. ولم يسلط الضوء عليها كفاية. وكأن كل ذلك لا يكفي حتى جاءت حادثة اعتقال مجموعة من "المتهمين" أو "المطلوبين" وعلى رأسهم المواطن شادي المولوي الذي استدرج من قبل جهاز الأمن العام اللبناني إلى مكتب وزير المالية والنائب محمد الصفدي في قلب مدينة طرابلس. وتم توقيفه هناك. كان من الطبيعي وفي بلد مثل لبنان، وفي ظل الظروف الآنفة الذكر أن تكون ردّة فعل على هذا الأسلوب وهذا الاستهداف ثم على الحملة السريعة التي بدأت تستهدف فريقاً سياسياً معيناً في مدينة الشمال، والشمال عموماً. وكان قد سبق ذلك تصريحات ومواقف عبّرت عنها قيادات سورية، والسفير السوري في لبنان، وشخصيات لبنانية محسوبة على سوريا، تطالب كلها بتسليم موقوفين في لبنان فارين من الجيش السوري، وباعتقال مؤيدي الثورة السورية، وبوقف مساعدة النازحين. فجاءت هذه العملية وما سبقها وما تلاها، وكأن عملية تنفيذ هذه المطالب قد بدأت وبالقوة! ثم كانت المفاجأة بالإعلان الرسمي أن توقيف المجموعة المذكورة تم بناء على معلومات من أجهزة أمنية غربية وبالتنسيق التام معها! لماذا المفاجأة؟ هل لأن الأجهزة الأمنية الغربية لا تقدم معلومات؟ لا تمرّر معلومات، قد تكون صحيحة وقد تكون مضللة هادفة لأمر يخدم سياسات حكوماتها؟ لا. كل هذا وارد. المفاجأة، لأن الذين هللوا للعملية الأخيرة والتنسيق مع الأجهزة الغربية هم أنفسهم الذين يتهمون هذه الأجهزة بإرسال الإرهابيين إلى لبنان وإلى الشمال تحديداً. وهم الذين يحركونهم. وهم الذين يريدون إقامة مناطق عازلة. وممرات آمنة في الشمال دعماً للثورة السورية. وهم الذين يتآمرون ضد أمن لبنان وسوريا. ولذلك كان السؤال: كيف يمكن التنسيق مع هذه الأجهزة؟ كيف ترسل هذه الأجهزة إرهابيين للتخريب ثم تطلب اعتقالهم؟ منطق لا يركب هنا! أجهزة تتهم بمحاولات التخريب ثم تأتي الإشادة بها في سياق التعاون لمنع التهريب. تهريب الإرهابيين والسلاح! غريب، كيف تتحول هذه الأجهزة الغربية إلى أجهزة صديقة وكيف يصبح مقبولاً التعاون معها معلوماتياً وتقنياً وأمنياً ومن دولة إلى دولة كما قال البعض الذي وقبل ساعات كان يقول كلاماً آخر. وكان ولا يزال يطلق الاتهامات ضد الغرب وأجهزته ومن يتعاطى معه من اللبنانيين! في كل الحالات، تطورت الأوضاع إلى مشهد سيئ وإلى خطر كبير. وبدأنا نسمع عن حلول أمنية، وتهديدات، واحتمالات انتقال هذه التوترات إلى أماكن أخرى في لبنان. وكأن ثمة شيئاً يحضّر على هذا الصعيد. ليست المرة الأولى التي ترمي فيها أجهزة أمنية أجنبية معلومات معينة، وتدفع أجهزة أمنية لبنانية في اتجاه تبنيها ليقع اللبنانيون في المحظور. ولذلك ينبغي التفكير في كل خطوة وقرار قبل الإقدام عليه. والحكمة تقضي بالاستفادة من التجارب ودروس وعبر الماضي. وعدم الاستعجال والإندفاع غير المدروس. آخذين بعين الاعتبار طبيعة الحدث وظروفه وما يحيط به. وتركيب المنطقة وتركيبة الجيش والحساسيات المذهبية والطائفية في لبنان! لقد دخل الجيش والقوى الأمنية إلى طرابلس بعد جهد كبير رغم الإجماع الذي توفر له وخصوصاً بعد موقف الرئيسين سعد الحريري وفؤاد السنيورة والمرجعيات الدينية السنية الأساسية. الداعي إلى الانتشار الأمني الشرعي في كل المدينة ووضع حدٍ لما يجري. ومع ذلك، يقول كثيرون إن النار تحت الرماد! لماذا؟ لأن المؤكد في القراءة السياسية أن استهداف طرابلس والشمال لا يزال قائماً. ولأن ثمة محاولات لهجوم "مضاد" يقوم به البعض لتأديب المعارضة - وبالتحديد القيادة السُنية الأساسية فيها. ولاعتبار أن الخطر على لبنان وأمنه واستقراره يأتي من البيئة الشمالية والبيئة السياسية المعارضة، وأن سلاح هذه الفئة، إذا وجد، هو المشكلة! هذا ما يقوله كثيرون في لبنان وما يحذّرون منه. ولكن، خطر هذه الذهنية، وهذا التفكير وهذه السياسة سينقلب على أصحابها. تلك هي التجارب التي يجب أن يتعلم منها الجميع وقد عشناها في لبنان في مراحل عديدة. الدولة دولة واحدة، والجيش جيش واحد، والأمن واحد، والاستقرار واحد، والمصلحة واحدة والقلق واحد. والموقف يجب أن يكون واحداً، مبنياً على معيار واحد. وممارسة واحدة وتسيير للمؤسسات على أساسه، لا فئوية ولا مذهبية ولا انحراف في هذا الاتجاه أو ذاك. هكذا يمكن حماية ما تبقى من دور للمؤسسات في البلد. مع التأكيد على ضرورة الإقلاع عن خطاب التحدي والاستفزاز ونبش القبور وبث السموم، والاحقاد في النفوس من قبل بعض متعاطي السياسة في لبنان. أما إذا كان ثمة من يستعد لتحويل لبنان إلى ساحة وملعب لتصفية حسابات على إيقاع ما يجري في سوريا وعلى قاعدة التهديدات المتتالية بأن النار السورية سوف تأكل آخرين في دولهم. وعلى قاعدة أن من يقف ضد النظام السوري ، يخسر مع سوريا ويخسر في لبنان، وكأن لبنان موقع لهذا أو ذاك، في عودة إلى اللعبة القديمة المعروفة، فإن في ذلك استهدافاً للبنان كل لبنان ولكل اللبنانيين، ويخطئ من يعتقد أنه سيكون بمنأى عن هذا التفكير الكارثي المدمّر!