حدث تغيير وزاري محدود هذا الأسبوع في مصر حلاً للخلاف بين مجلس الشعب ومجلس الوزراء والقطيعة شبه الكاملة بينهما في حين أن دور البرلمان هو استجواب الوزراء. وقد كان هو الحل الثالث المرضي للمجالس الثلاثة: مجلس الشعب، ومجلس الوزراء، والمجلس العسكري. فلا الحكومة أرادت أن تستقيل ولا المجلس العسكري أراد أن يقيل، ولا يوجد دستور ينص على حق مجلس الشعب في سحب الثقة من الحكومة. فلم يبق إلا التغيير الوزاري المحدود وخاصة أن زمن أية وزارة لن يدوم إلا أسابيع حتى يتم انتخاب رئيس الجمهورية الذي يكلف رئيس وزراء جديداً بتشكيل الحكومة. وظهر أن من أضعف الوزارات التي يمكن تغييرها إرضاء للشكل، التغيير الوزاري المحدود، وزارة الثقافة ووزارة التعليم العالي أي الجامعة. وهو ما يكشف عنه العقل السياسي الخاص عند من بيدهم السلطة أو حتى العقل السياسي العام عند المثقفين والجامعيين وعند جموع المواطنين. فمهما تغير المسؤولون عن الثقافة والجامعة فلا يتحرك أحد لا من المثقفين ولا من الجامعيين ولا من متلقي الثقافة ولا من متلقي التعليم الجامعي. فالثقافة والتعليم أقل أهمية من رغيف الخبز وأنبوبة الغاز ولتر البنزين أو السولار. لا يشعر بهما الناس في حياتهم اليومية. ولا يقومون بمظاهرات من أجلهما. ولا يقفون بالطوابير أمام المسارح والمراكز الثقافية ومكتبات الهيئة العامة للكتاب يطالبون بتذكرة دخول أو كتاب. هما مجرد ترف لا يملك الناس ثمنه. فكأن الثقافة ثرثرة ولهو وكلام للمثقفين لا يفهم معظمه. ومجلات ثقافية وأدبية وفنية تلقى الدعم بالملايين ولا تحقق كسباً. والجامعة بطالة خريجيها، وعملهم أي شيء حتى ولو كانت أعمالاً يدوية في الأسواق. يقفون صفوفاً أمام أبواب السفارات طلباً للهجرة. والتعليم العالي تكلفة زائدة لا تستطيع الأسرة تحملها من مصاريف وأسعار كتب ومذكرات. فقد أصبحت مجانية التعليم صورية وليست فعلية. وقد حمدت الأسر الله على أنها اجتازت مرحلة التعليم الثانوي بدروسها الخصوصية وتكاليفها. وكيف تتحول الجامعات واستقلالها إلى وزارة للتعليم العالي تبعاً للدولة؟ لقد تم ذلك عندما أراد النظام السياسي وضع الجامعات تحت سيطرة الدولة منعاً لمظاهرات الطلاب، وحداً من استقلالها. في حين كان يكفيها المجلس الأعلى للجامعات للتنسيق بينها، وله استقلاله العلمي والأكاديمي. وتبقى وزارة التعليم العالي للمعاهد العليا الفنية التي ليست كليات جامعية. ففي العقل السياسي الثقافة شرف لا فائدة منه، والجامعة مصاريف بلا عائد، وخسارة بلا مكسب، وبطالة مقنعة بلا مستقبل. ولا يدرك العقل السياسي أن الثقافة والتعليم لهما أعمق الأثر في عقول المواطنين وفي تربيتهم وفي رؤيتهم العامة للحياة. ويحدث ذلك بطريق غير مباشر وغير ملموس كرغيف الخبز وأنبوبة البوتاجاز. ولا يرى إلا على الأمد الطويل. الثقافة هي التي يشربها المواطن مع الماء، ويتنفس بها مع الهواء. تتسرب إليه منذ بداية وعيه من خلال أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة ومن خلال الأمثال العامية التي يسمعها منذ نعومة أظافره. فيستشهد بها مع كل حجج القول. وهي الأسرع في الوصول إليه من خلال الفنون الشعبية. وهي النشاط المدرسي خارج الفصول في الأفنية العامة في المدارس التي يضع فيها التلاميذ قلوبهم أكثر مما يضعونها في الفصول حيث يسرحون بعقولهم خارج الدروس. الثقافة هي التي تبقى مع التلميذ حتى وإن نسي التعليم. وتتأكد في الجامعة حيث حرية الفكر والاختيار الحر، وتكوين الرأي وشخصية المواطن. الثورة ثقافة قبل أن تكون سياسة، فكرة قبل أن تكون حركة، عقل قبل أن تكون جسداً، شعاراتها ثقافة. الحرية والكرامة والعدالة ثقافة. والحياة والشهادة والتضحية ثقافة. وربما كان اختطاف الثورة نقصاً في الثقافة، في مفاهيم الثورة المستمرة، التآلف الوطني، القيادة الوطنية، القرارات الثورية، محاكم الثورة، الثورة في الحياة اليومية، الثورة في جهاز الدولة، الثورة في عقل الأمة. وليست الجامعة استمراراً للثانوية العامة والمناهج المدرسية التي تقوم على الحفظ والتلقين، مجرد معهد لإعطاء شهادات للتأهيل المهني. الجامعة هي الفرصة الثانية، بعد التعليم العام لإعداد المواطن الصالح، والتعود على الاستقلال في الرأي، والحرية الفكرية، والرأي والرأي الآخر، وحمل هموم الفكر والوطن. ويستحيل حمل هموم الفكر وحده لأن الفكر انعكاس لما يحدث في الوطن. كما يستحيل حمل هموم الوطن وحده فذلك في الحزب السياسي أو في التنظيم السري. والعادة كلما تغير وزير تغير رجاله. فكل وزير له بطانته ومساعدوه ومن ينتظرون مثله الرفعة والرقي. وقد تكون له سياسات مختلفة عن الوزير السابق عن صدق أو لمجرد إثبات الوجود. فتتغير سياسات الثقافة والجامعة. وإذا تغير الوزير باستمرار، أربعة وزراء ثقافة في عام وعدة أشهر فكيف يتم تخطيط ثقافة بعد استشارة أهلها؟ ومتى تتم صياغة اقتراحات ثم مناقشتها في عدة أشهر وهو يعلم أنه قد يغادر في أي وقت؟ فهو الجانب الضعيف بين الوزراء. هو الذي يتغير في أي هزة وزارية. وبتعبير شعبي هو "الملطشة" في كل أزمة وزارية. هو العمود المهزوز في البناء الذي يسهل تغييره، هو الإضافي الذي لا لزوم له. وفي التعليم العالي، ما الفرق بين رئيس جامعة وآخر، بين جامعة القاهرة وجامعة حلوان؟ على الأقل يأتي رؤساء الجامعة بالانتخاب من العمداء الذين يأتون بدورهم بالانتخاب من الأساتذة. فلرؤساء الجامعات قواعد في مؤسساتهم. في حين يأتي الوزراء بالتعيين زرعاً في مؤسسات جديدة. لا تحتاج إلى تخصصه إذا كان طبيباً أو مهندساً أو عالماً طبيعيّاً بل إلى مهارة إدارية طبيعية أو مكتسبة وربما إلى مناورات سياسية وأحياناً إلى نوع من الازدواجية في الشخصية. يقول ما لا يعتقد، ويعتقد ما لا يقول. وما الفرق بين عميد كلية حقوق أو آخر، وبين وكيل كلية أو آخر كي يكون وزيراً لمجلسي الشعب والشورى؟ ألا يعلم كلاهما القانون؟ وإذا كان منضويّاً في حزب الأغلبية، ألا يتطلب ذلك التخلي عن بعض قوانينه الدستورية؟ وإن كان مستقلاً عن كل الأحزاب، أغلبية أو أقلية، فهل يستطيع أن يتعامل مع مجلس شعبي تكون على أساس حزبي؟ إن الثقافة والجامعة لا تقلان أهمية أو تأسيساً للحياة السياسية أو حضوراً في مجلس الوزراء أو في الحوار مع المجلس العسكري عن باقي الوزارات: الدفاع، والخارجية، والداخلية التي ترسم سياسات مصر الدائمة للدفاع عن أمنها القومي. فمع الأمن الوطني هناك الأمن الثقافي والأمن العلمي. إن وضع سياسات دائمة للثقافة والتعليم أفضل من الاضطراب الحالي في مراحل التعليم الثانوي، ثانوية عامة على مرحلة واحدة أم مرحلتين. ثم اختيار مرحلتين، وبعدها بعدة سنوات اختيار مرحلة واحدة. وتتغير سياسات التعليم من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء كي تعود مرة ثانية إلى الأجداد. فيصبح الطالب ميداناً لتجربة السياسات وليس تنفيذاً لأفضلها. وتتكاثر الجامعات الأجنبية الخاصة، الفرنسية والبريطانية والألمانية والكندية أو العربية الخاصة. وكلها بمصروفات باهظة لا يستطيعها إلا أبناء الطبقة الراقية، بل يغزو التعليم الأجنبي الجامعات الوطنية فتصبح لدينا تجارة واقتصاد وحقوق "إنجلش" وكأننا في المغرب العربي أيام الاستعمار الفرنسي، عوداً إلى الأنجلوفونية. هذا ليس دفاعاً عن وزراء رحلوا قبل الأوان، ولا نقداً لوزراء قادمين قد يرحلون أيضاً بمجرد انتخاب الرئيس، وتكليفه لرئيس وزراء جديد يختار وزراء جدداً. بل هو تحليل لرؤية العقل السياسي الحاكم للثقافة والجامعة، وغضب من مجموع المثقفين والجامعيين لأن مؤسساتهم هي الأكثر بيعاً في سوق النخاسة، عفواً في سوق السياسة!