عندما شَرَعتْ وكالة الفضاء الأميركية بإرسال رواد فضاء اكتشفتْ أن أقلام الحبر السائل والجاف لا تصلح للعمل في ظروف انعدام الجاذبية، فأنفقت 12 مليار دولار على مشاريع لتطوير أقلام صالحة للاستخدام في الفضاء. العلماء الروس وجدوا طريقة أخرى لحلّ المشكلة، وهو قلم الرصاص.هذه نكتة، والنكات الواقعية في العلوم والتكنولوجيا أكثر إثارة للبهجة، لأن بهجة الواقع كبيرة ليس بالحجم، بل في بهجة العمل لتحقيقها. ولا حدود لبهجة جماهيريات العلوم والتكنولوجيا التي توردها الجماهير، وتموّلها، وتستثمر فيها، وتحررها، وتصححها، وتنشرها. لا يحدث ذلك في بلدان تحمل عناوين جماهيرية، كالصين الشعبية، أو كوريا الشعبية، أو الجزائر الشعبية... بل في قلب العالم الرأسمالي الذي يقدس الفردية. حدث ذلك في الشهر الماضي عندما صادق أوباما على قانون "جوبز" الذي يتكون عنوانه من الحروف الأولى بالإنجليزية لعبارة "القفز بالبيزنس". يعفي القانون الشركات المنشأة بالتمويل الجماهيري من قيود التأمينات المفروضة على الأعمال. وكما يحدث غالباً، اقتفت لندن خطى واشنطن الريادية، وطلبت من مؤسس الإنسكلوبيديا الجماهيرية "ويكيبيديا" تقديم المشورة لإنشاء بوابة في شبكة الإنترنت لنشر البحوث المدعمة من قبل الدولة. ومن كان يتصور أن تلجأ بريطانيا، بلد النخبة العلمية إلى "ويكيبيديا" التي يحررها ملايين القراء، وكانت تُعتبرُ عند إنشائها قبل أقل من عقدين صرعة أميركية عابرة، أو يتوقع أن تخصص لندن نحو 3 ملايين دولار لإنشاء بوابة البحث العلمي فيما توقفت عن الصدور الموسوعة البريطانية "بريتانيكا"؟ ديفيد ويليت، وزير الجامعات والعلوم البريطاني اعتبر الخطوة "زلزالاً يفتح مغاليق البحث العلمي ويضع المعطيات والسلطة في أيدي الناس الذين يدفعون مقابلها"، وذكر أن البوابة لن تعمل كمستودع لحفظ وفهرسة البحوث وتوزيعها فحسب، بل أيضاً "كقناة تتيح للباحثين من جميع أنحاء العالم التعاون والمشاركة في المعطيات وبناء شراكات بحثية جديدة". وعندما تكون معرفة العالم كلها في المتناول، حتى بالشكل المحدود الحالي، يحدث ما ليس بالحسبان. فالمعرفة العلمية تنامت بسرعة خارقة لا تتيح الانتباه إلى الروابط المهمة بين المواضيع، ليس لأنها مضمرة جداً أو يصعب التقاطها، بل لأن أحداً لا يملك ما يكفي من الفهم الواسع في العلم كي يلحظ هذه الروابط. ويقوم محرك البحث عبر خطوط المعلومات الفورية "الأونلاين" بدور العقل الجماهيري. محرك البحث الطبي "مَدلاين" يجوس ملايين البحوث الطبية، ويرسم خريطة مفتوحة للمعرفة الطبية البشرية لا مثيل لها في تاريخ العلوم. وتضع بوابة البحث العلمي مقاسات تقنية مفتوحة لنشر نصوص البحوث ومعطياتها ومصادرها وهوامشها، وتتيحها للعقل الجماهيري، وتطلق بذلك القوة الكامنة في المعرفة خارج القيود التقنية، وسجن الملكية الذهنية وحقوق النشر. ويوزع التوريد الجماهيري للمعلومات المهام عبر "أونلاين" على مجموعة غير محددة من الناس، وليس على الباحثين أو المستخدمين بالأجر فحسب، ويقيم أواصر التعاون بين البشر وأجهزة الكمبيوتر لتوليد المعلومات وتطويرها وتعديلها وتصحيحها. ويبني التمويل أو الاستثمار الجماهيري الذي يجري غالباً عبر"الأونلاين" شراكات جماعية يعتمدها الناس ويوظفون موارد فيها لتحقيق أهداف محددة، أو لخدمة غايات مشتركة. وكل ما يبهر أنفاس الملايين حول العالم اليوم صنعته جماهيريات العلوم والتكنولوجيا التي لم تفتح فحسب أبواب المعرفة للمتلقين، بل جعلتهم على درجات مختلفة مشاركين في إبداعها وتقويمها وتصحيحها والانتفاع بها. ولا أمزح عندما أقول إن ماركس لم يكن يمزح عندما قال: "العقل كان موجوداً دائماً، لكن ليس دائماً بشكل معقول". والعقل المعقول في "الربيع الأكاديمي" لا تُقعده المشاكل التي يعانيها الناس، بل تحركه الآمال التي يتطلعون إليها. ولا حدّ لحجم آمال مشروع "الجينوم البشري" الذي تطور خلال عقدين إلى أضخم بحث جماهيري في تاريخ العلوم. ولم تكن المشاركة الجماهيرية مركز الاهتمام عندما كتبتُ أول تقرير صحفي عن "الجينوم البشري" صيف عام 1991. آنذاك كان علماء البيولوجيا قد أنجزوا 5 في المئة فقط من خريطة الجينات التي تحدد ملامح وسمات كل فرد، البدنية والسلوكية، واستعداده للإصابة بمختلف الأمراض، الموروثة والمعدية، بما فيها السرطان. و"الجينوم هو الإنسان كله". قال لي ذلك السر والتر بودمر رئيس "المنظمة البريطانية للجينوم" آنذاك. وفي عام 2000 اكتمل رسم خريطة الجينوم البشري، التي تتضمن نحو 25 ألف جينوم، ويواصل آلاف العلماء اليوم مسح أكثر من 3 مليارات قاعدة تشكل مفردات الجينوم، كما تشكل المفردات اللغوية اللغة. وفي مقالة نشرتها أخيراً مجلة "نيوستيتمان" اليسارية، كتب باحثان من مؤسسة "ويلكوم" الطبية التي شاركت في تمويل مشروع "الجينوم"، أنه كلف أقل من أربعة مليارات دولار، لكنه حقق موارد ربحية للصحة العامة بلغت نحو 800 مليار دولار. هذا هو حجم المكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي تحققها إزالة قيود الملكية عن البحوث العلمية، كما فعلت "ويلكوم" التي وضعت جميع مطبوعاتها والبحوث الطبية التي تمولها في المتناول العام. وهيا إلى الكون في مهرجان الفلك الجماهيري الذي يضع حسب عنوانه "يد العالم على الكون". يُعقد المهرجان في يوليو المقبل في حرم جامعة "الأخوين" في مدينة إفران بالمغرب، وتعرض فيه أعمال وتجارب طلاب ومدرسين وعلماء وأكاديميين من جميع أنحاء العالم، وبينها مُذنّبات ونجوم ساطعة "سوبر نوفا" ساهم الطلاب في اكتشافها. ويتضمن المهرجان الذي يعقد لأول مرة في بلد عربي "برنامج غاليليو" التربوي الجماهيري، ويُعرض فيه "الراصد الفضائي الآلي" لجامعة الأخوين، وهو الوحيد من نوعه في المنطقة، حسب القائمين على المهرجان. وإفران التي تُعتبر سويسرا العرب، منتجع ساحر على مشارف جبال الأطلسي، وسُمِّيت "جامعة الأخوين" تيّمناً بالعاهلين الراحلين اللذين رعياها، السعودي فهد بن عبد العزيز والمغربي الحسن الثاني، ويُقالُ إنها "هارفرد العرب" مع أنها في عمر البراءة (16 عاماً). ولا أتوقع مشكلة كالتي حدثت في مهرجان "الأرض والكون للحب وليس للحرب" الذي عقد في "وكالة الفضاء الأوروبية" بمدينة أوتريخت بهولندا في تسعينيات القرن الماضي. لم يكن ممكناً آنذاك مقاومة إغراء السماء الصافية بالمبيت في خيمة بالعراء الهولندي. وقبيل الفجر أيقظتنا الموظفة المسؤولة عن الخيم وأشارت إلى السماء، وقالت: "أنظر، ماذا ترى؟"، قلتُ: "أرى ملايين النجوم". سألتْ: "وماذا يعني هذا؟"، أجبتُ: "يعني أن النهار سيكون جميلاً". سألتْ: "وماذا؟"، فأجبتُ: "وأنتِ ماذا تعتقدين؟"، قالت: "أعتقد أن خيمتنا سُرقتْ". وهذه نكتة أيضاً، وعرفتُ منذ أوتريخت أن بهجة النكات الواقعية في جماهيريات العلوم والتكنولوجيا غلابة.