تعد إيران الدولة الشيعية الوحيدة في العالم، ولولا النجف لوجد الشيعة العرب أنفسهم في وضع معقد، فالدولة التي تزعم تمثيلها للشيعة أشاعت جواً من عدم الثقة في تطلعاتها منذ أيامها الأولى، وخاضت حرباً طاحنة مع نظام صدام، ولا تزال تحتل الجزر الإماراتية الثلاث، ويعرف الجميع بأنها تقف وراء الاضطرابات في أكثر من دولة عربية. واستطاع عموم الشيعة العرب النأي بأنفسهم عن هذا النظام طوال ثلاثة عقود، وعبروا البحر المضطرب بأمواج الفتن الإيرانية والوصول إلى بر تبادل الثقة بينهم وبين دولهم وشركائهم في المواطنة في الدول العربية التي ينتمون إليها، وذلك بفضل ارتباطهم الدائم بمراجع النجف، خصوصاً الخوئي والسيستاني، اللذين لم يعترفا يوماً بولاية الفقيه، حجر الأساس في النظام الإيراني. عمل النظام الإيراني منذ بداياته على إضعاف مراجع الشيعة المقيمين في إيران ممن لا يقولون بولاية الفقيه، بل فعل ذلك حتى مع منتظري بعد أن انتقد بعض سياساته، فأصبح فجأة مجرد رجل خرف في الإعلام الإيراني بعد أن كان مرشحاً لخلافة الخميني، وبقي سنوات طويلة رهن الإقامة الجبرية في منزله، وعند موته منع النظام من تشييع جنازته ودفن كميّت مقطوع من شجرة. وحاول النظام الإيراني عبثاً إزاحة مكانة النجف من قلوب شيعة العالم ووجدانهم لتحتل مكانها مدينة قم، ويبدو أنه وصل إلى قناعة بأن مكانة النجف لن تهتز، فقرر تجهيز معمم نصفه عراقي ونصفه إيراني ودفعه للنجف ليتصدى للمرجعية هناك. إذ تعد إيران هاشمي شهرودي (65 سنة) ليكون خليفة للسيستاني (82 سنة). وشهرودي كان رئيساً للسلطة القضائية في إيران لمدة عشر سنوات، وهو حالياً عضو في مجلس صيانة الدستور، يعني "منهم وفيهم". وأمر كهذا يبدو مستحيلاً في الوهلة الأولى، لكن من عادة النظام الإيراني إلهاء العالم بالتفكير بينما هو يعمل على الأرض، إذ أنشأت إيران شبكة رعاية في العراق باسم شهرودي، كما تقوم هذه الشبكة بتأمين منح دراسية للطلاب في حوزات ومدارس النجف. ولن يجد النظام الإيراني شخصاً أفضل من شهرودي لدفعه إلى النجف، فهو أصلاً من مواليد هذه المدينة المقدسة لدى الشيعة، ولم يغادر العراق إلا وهو في الثلاثين من عمره، ويعتبر مؤسس "حزب الدعوة" الذي يقوده المالكي، كما يعتبر شاباً قياساً إلى المراجع الأربعة الكبار في النجف. ولن يجد النظام الإيراني شريكاً أفضل من المالكي، ولن يطرب بتشبيه أجمل من تشبيه مقتدى الصدر الذي يتبعه ملايين الفقراء من الشيعة، بأن العراق وإيران "روح في جسدين". ومع الدعاية المنظمة لشهرودي، وتلميعه بالكرامات، واستغلال الفقر في العراق، والوجود الإيراني المكثف هناك، وربما استخدام التهديد والألاعيب في مسألة الأعلمية التي هي المعيار الأهم في اختيار من يرأس الحوزة العلمية، سيجد شيعة العالم شهرودي خليفة للمرجع الأعلى آية الله السيستاني. والتقليد يعني رجوع الفرد الشيعي لمرجع تقليد لمعرفة أحكام الدين، وهو حر في رأيه خارج هذا الإطار، مثلما يعود المواطن الماليزي مثلاً لمشايخ السعودية لمعرفة أحكام الفقه والعبادات. أما ولاية الفقيه فهي تلزم المقلّد بالرجوع للمرجعية في جميع أمور الحياة، بما فيها الشؤون السياسية. قد لا يكون الطريق أمام شهرودي معبداً إلى النجف، حيث مسقط رأسه، لكن النظام الذي استطاع بلع دول بأكملها، لن يعجز عن التهام النجف، وسيواجه الشيعة العرب حينها معضلة حقيقية، فمرجعهم الأعلى خارج من عباءة الولي الفقيه، وكان ولا يزال موظفاً لدى القائد السياسي والعسكري للنظام الإيراني.