من اليونان إلى فرنسا أوروبياً، ومن الجزائر حتى سوريا عربياً، يسيطر علينا جو الانتخابات وتداعياته، بما فيها ما شهدته القاهرة يوم الخميس الماضي، أي المناظرة التلفزيونية. وقد لا يعرف الكثيرون أنه بسبب أهمية الانتخابات، أصبح هذا المجال تخصصاً قوياً في علم السياسة، له نظرياته الخاصة، ومناهجه وحتى نصائحه للمرشحين عن كيفية إدارة حملاتهم الانتخابية في مواجهة المنافسين وسبل إغراء جماعة المصوتين لكي يحصلوا على أكبر قدر من الأصوات. وأصبح من المعتاد عند كل مرشح أساسي -في الدول الديمقراطية بالذات- أن يضم إلى فريقه أحد المتخصصين في "علم السلوك الانتخابي"، وهو فعلاً علم يستخدم الجداول والإحصائيات لقياس توجهات الرأي العام على فترات مختلفة قبيل التصويت، ثم يقوم بتطويع حملات المرشحين الانتخابية طبقاً لتوجهات من سيقومون بالتصويت. هل نستطيع تطبيق هذا العلم في البلاد العربية؟ للإجابة على هذا السؤال، أتذكر رسالة من طالبة سابقة ذهبت لتكملة الدكتوراه في العلوم السياسية في الولايات المتحدة، كانت رسالتها منذ عدة سنوات نوعاً من الاحتجاج على برنامج دراستها والتركيز في المقررات على "علم السلوك الانتخابي"، كجزء من قطاع دراسي عن "الديمقراطية والنظم السياسية". كانت حجة هذه الطالبة أن كل هذا الموضوع لا يهمها على أساس أن الانتخابات -إذا وجدت في بلدها- فنتائجها معروفة سلفاً، وبالتالي ليست ذات أهمية. لكن جاءتني رسالة منها في بداية هذا الأسبوع، فيها نوع من الاعتذار عما كتبته منذ سنوات عن عدم أهمية "علم السلوك الانتخابي"، ثم تعلق فيها على المناظرة التلفزيونية بين عمرو موسى وعبد المنعم أبوالفتوح. وفي الواقع، لا يزال أمام المنطقة العربية طريق طويل حتى تقرر الانتخابات مصير نظامها وحياة مواطنيها، فالانتخابات لها أهمية تتعدى القطاع السياسي البحت، بمعنى أنها تكون نافذة على المجتمع وتعكس الكثير من قيمه الجديدة أو القديمة. ولنأخذ مثالين لتوضيح هذا المغزى الاجتماعي للانتخابات، مثالين حديثين من الانتخابات الروسية والفرنسية. ليس هناك داع للتفصيل عن الانتخابات الروسية، لأنها باختصار شديد مثل لعبة الكراسي الموسيقية، وحتى بطريقة واضحة وفجة. فقد تقلد فلاديمير بوتين في الأسبوع الماضي رئاسة روسيا للمرة الثالثة، ويلقبه الكثير من الروس بالقيصر الجديد. فقد تولى رئاسة روسيا مرتين سابقتين بين عامي 2000 و2008، وعندما لم يسمح له الدستور بتولي ولاية ثالثة، طلب من شريكه الذي يصغره بـ13 عاماً، وهو ديمتيري ميدفيديف الذي كان رئيساً للوزراء، أن يكون رئيساً للجمهورية لولاية واحدة تسمح لبوتين بالعودة، أي أن المطلوب من ميدفيديف كان القيام بدور "المحلل" الشرعي. وفعلاً تم هذا التنسيق، لدرجة أنه عندما كان ميدفيديف رئيساً للجمهورية فإنه كان يتلقى إرشاداته من بوتين. ثم بعد عودة بوتين رسمياً رئيساً للجمهورية، كافأ ميدفيديف بتعيينه رئيساً للوزراء، أي لعبة كراسي موسيقية دون لف ولا دوران. ولا شك أن نتيجة الانتخابات وطريقة إجرائها تعكسان الكثير مما يدور في روسيا، لذلك نجد أن ثمة كثيرين يتوقعون أن يقوم الروس بثورة ثانية. الوضع مختلف تماماً بالنسبة للانتخابات الفرنسية، ليس فقط في طريقة إجراء الاقتراع والمناظرات بين المرشحين الرئيسيين: ساركوزي (يميني) وهولاند (اشتراكي)... ولكن بالطبع أيضاً في نتائجها، حيث رأينا عودة التوجه اليساري مع هولاند إلى الأليزيه بعد 17 عاماً من الغياب منذ مغادرة الرئيس الاشتراكي ميتران. وبذلك يصبح هولاند الرئيس السابع لفرنسا منذ قيام الجمهورية الخامسة مع شارل ديجول في الخمسينيات. فهناك إذن تداول حقيقي للسلطة وتناوب على الأليزيه، وليس فقط نزاهةً في إجراء الانتخابات. لكن اختيار هولاند -حتى ولو كان بأغلبية قليلة (حوالي 52 في المئة من الأصوات)- تكشف عن حدوث تغيير في قيم المجتمع الفرنسي فيما يتعلق بمؤسسة الزواج؛ فالسيدة الأولى الجديدة -فاليري- هي صديقة رئيس الجمهورية ورفيقته وليست زوجته، وكانت علاقتهما معلنة أثناء الحملة الانتخابية وقبلها بسنوات عندما انفصل هولاند عن رفيقته الاشتراكية التي كانت في الواقع منافسة لساركوزي في الانتخابات السابقة. تحول المجتمع الفرنسي من الاقتصار على الزواج الرسمي إلى احترام العلاقة بين اثنين غير متزوجين، لكن يعيشان في العلن. المهم هو أن الشفافية على كل المستويات.