سيطر مناخ الثورة على الخطاب السياسي العربي بشكل لا نظير له، مغيباً كل الخطابات بما فيها الخطاب الإسلامي. فما حدث كان مفاجأة كبيرة ليس للعرب وإنما أيضاً للعالم الذي سارع بخطوات لحماية مصالحه، فرجعنا مرة أخرى للديمقراطية والإصلاح السياسي، وتحول العالم نحو منطقة الشرق الأوسط بمفكريه ومحلليه وساسته، لمعرفة ما يجري في هذه المنطقة وماذا حدث لها. الموقف يخرج عن التوقع، سواء في فهم الحدث أو حتى جغرافيته، فتونس هي البداية والبوعزيزي هو الشعلة التي حركت الناس ودفعت زين العابدين نحو المنفى. وفي مصر سقط مبارك في فترة زمنية قصيرة. والاختلاف في الصورتين أن البوعزيزي كان منتمياً للشريحة الفقيرة، بينما كان الشباب المنتمي للجامعات الأجنبية هو من حرك الشارع المصري، وهذا ما يدعونا لمحاولة فهم دوافع الحركة الاجتماعية، سواء في مصر أو في سائر الأقطار العربية. فما حدث ويحدث جاء خارج المتوقع في الذاكرة العربية بينما حقيقة قوانين التغير تفرض نفسها لكون المنطقة العربية ليست استثناءً من قوانين الطبيعة التي تحكم المجتمع الإنساني. الصراع شديد في منطقتنا العربية، فهناك قوى، سواء ممثلة بالسلطة أو بالأحزاب التقليدية أو طبقة رجال المال... تسعى لمناهضة التغيير، فهم يمسكون بشدة على امتيازاتهم ويدفعون بمزيد من التحالفات العابرة للقارات للحفاظ على امتيازاتهم وتوجهاتهم. شيء مثل ذلك يحدث في أوروبا، خصوصاً في ظل الأزمة المالية العالمية التي دفعت الشباب للتحرك ضد أصحاب السلطة السياسية والمالية. فاليوم مثلاً نرى أن سوريا راهنت على سحقها للانتفاضة في فترة زمنية قصيرة، بينما واقع الحال يؤكد أن النظام لم يعد بمقدوره الحفاظ على موقعه، كما أن الحليف الروسي ليس بمقدوره الاستمرار بمساندته للنظام السوري، لأن المساندة مكلفة مالياً وبالتالي ليس هناك سوى مواجهة احتمالية انقلاب داخلي يحمي ما تبقى من تحالفات، وخلال مرحلة تحول تنقل سوريا إلى وضع جديد، أو الدخول بحرب أهلية مدمرة. فالتحول واقع لا محالة، والسؤال الأهم: هل سيقف هذا المد عند سوريا أم سنواجه تحولاً كبيراً في المنطقة العربية؟ الجميع يدرك بأن المراهنة في العراق مازالت غامضة، وكذلك في مصر وتونس وليبيا... لكن التغير وقع في كل الأحول وهو تغير مخاضي مثله مثل ما حدث في دول أوروبا في تحولاتها التاريخية نحو الديمقراطية. وعلى أساس ذلك يبدو أن قرار التغير الشرق أوسطي أصبح ضمن المشاريع التي بدأت في المنطقة، مما يتحتم فهم أبعاده ودوافعه لكي لا تحدث مفاجآت خصوصاً بالنظر إى أهمية المنطقة بالنسبة للمصالح الدولية. فهذه المنطقة لا تخرج عن قواعد التغير، وهي تملك الإمكانية لتحقيق إصلاحات ضرورية تضمن لكل الأطراف حقوقها لكي تتجنب هزات عنيفة تقود إلى نتائج غير متوقعة. أما المراهنة على قوة المال في تعطيل التغير من خلال دولة الرخاء، فهو ليس بالحل الناجع لمواجهة موجات عنيفة في طريقها للمنطقة بعد تغيير النظام في سوريا. ولعل مراهنتنا على الحكمة في فهم التاريخ وضرورة استنباط ما هو متوقع في ظل معادلات عالمية جديدة فرضتها هجمات سبتمبر، يفيد في توجيه وإدارة أحداث المرحلة المقبلة!