تطالعنا الأخبار يوماً بعد يوم عن الأوضاع المضطربة في العالم العربي، لتنجح هذه في اللحظة الأولى بظهور حالة من الأسى والكآبة، فمن هنا ومن هناك تتوالى الأخبار عن تظاهرات وإضرابات تقوم بها مجموعات من العاطلين عن العمل ومجموعات أخرى من الطلبة الجامعيين والعاملين في حقل التعليم العالي، إضافة إلى آخرين يهتفون ضد "بقايا" النظام السابق،... إلخ، ذلك يمثل ظاهرة لا يمكن المرور عليها دون قلق أو اهتمام، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار ما راح يُسوق له منذ وقت مضى تحت إطار التخويف من اندلاع حالات من الفوضى هنا وهناك من البلدان العربية، التي أسقطت نخبها الأمنية السياسية وعلى رؤوسهم رؤساء ومسؤولون كبار، فهم يلاحظون أن الفوضى المتصاعدة هنا وهناك في تلك الأخيرة، ليست ذات أسباب مقبولة بالقياس الاقتصادي والسياسي والمالي وغيره في ما نسميه "مرحلة انتقال إلى نظام اقتصادي أقل فساداً واستبداداً وأكثر حرية وكرامة وكفاية مادية مناسبة وغيره". ومع علمنا بأن المراحل الانتقالية في مثل هذه الحال تحمل وشم الفوضى المذكورة ليس بسبب طبيعة تلك المراحل بما فيها من تعقيدات وإشكالات ومعضلات موروثة من عقود وتحتاج - من ثم - لجهود حثيثة ووقت كاف من أجل تجاوزها أو ضبط سيرها واتجاهاتها لصالح مسار التغيير في البلدان المعنية، إلا أن هنالك ربما أسباباً خفية أو معلنة تُظهر الرغبة في إحداث بلبلة في وجه ذلك المسار. وهنا كذلك نستطيع أن نضع أيدينا على حالة تكمن تحت ما يمكن ضبطه باسم "الجهود التي تبذلها القوى المضادة للتغيير المعني"، وفي الحقيقة ليس ها هنا ما يدعو للعجب، فخصوصية التطور المعقد والعسير الولادة، تنطوي على ضرورة أخذ المواقف المضادة للتغيير بعين الاعتبار، ففي تونس ومصر وليبيا واليمن، والآن في سوريا، شهدنا ونشهد حالات من الجموح العنفي تطلقها جماعات ضد ما حدث من خطوات أولية على طريق التغيير، باعتقاد أن المراكز العليا التي خسرتها النخب القيادية هناك لن تتخلى عنها وتدع الموجة تسير إلى أمام. ها هنا نضع أيدينا على زاوية مهمة من تفكير الفئات والطبقات والمجموعات التي تجد نفسها وقد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من افتقاد السلطة، فقد تكوّن لديهم وعي زائف ضد التاريخ، تظل سلطتهم بمقتضاه قائمة إلى الأبد. وإذا طالب جمهور من المذلين المهانين والمفقرين بشيء من الإصلاح، فإنهم يعلنون غضبهم على أولئك، إن "الحق الإلهي" يعود إلى العلن على أيدي أولئك، الذين يملكون المال والسلطة والمستقبل، ولما كان الأمر غير قابل لأن يستفرد أولئك بهذا الثلاثي، فقد وجد ذلك الجمهور نفسه مُرغماً على رفع عقيرته احتجاجاً ومطالبة وإنذاراً. ها هنا أراني أميل إلى الاعتقاد بأن مُلاك السلطة والمال يجدون أنفسهم أمام الدفاع عن "حقوقهم الطبيعية أو الإلهية"، مفرطين بذلك بفرص تأتي بإحداث توازنات اقتصادية وسياسية واجتماعية وغيرها، ويكون بنتيجة ذلك أن يبقى العنف والعنف المضاد مهيمناً في الساحة. إن واقع الحال ذاك هو - وغيره - الذي يكمن وراء تصميم أصحاب الحقوق على الحصول على حقوقهم!