أربعة وستون عاماً من العار الدولي في قلب العالم العربي. وليس آلم من ذكرى النكبة سوى ترك الشعب الفلسطيني يحييها وحده. قبل ذلك تُرك يدرك شيئاً فشيئاً أن قضيته باتت مهمته وحده، بعدما تكاثرت القضايا والنكبات عربياً. تضخّم إرث المعاناة والألم، وتضمّخ بدماء الأجيال المتعاقبة، وإذا بما حدث قبل ستة عقود كأنه حصل بالأمس، وأصبحت الوقائع المستنكرة من كل القوانين والأعراف مجرد ذكريات. ثمة دولة قامت على التطهير العرقي والجريمة، وأحلّت شعباً مكان شعب، فغيّرت الوقائع وصارت تنكر على الشعب الآخر أن يكون له عنوان وأن تكون له دولة. عدا المآسي والمجازر، بماذا يذكرنا هذا اليوم الخامس عشر من مايو؟ أولاً، بأن النظام العالمي الذي ولد مسكوناً بهول الإبادة النازية لليهود، وتعهّد عدم تكرار مثل هذه الظاهرة اللابشرية، ما لبث أن عامل شعب فلسطين باعتباره الشعب المختار لدفع ثمن "الهولوكوست" وبالتالي الشعب المستثنى من قيم العدالة الإنسانية ومفاهيمها. وثانياً، بأن سياسة الكيل بمكيالين عنت ولا تزال تعني، بتطبيقاتها الأميركية والأوروبية، أن ميثاق الأمم المتحدة الذي يحرّم غلبة القوة على إرادة الشعوب فقد كل مصداقية له إذ كافأ إسرائيل ودعم نشوءها وسرقاتها المتوالية للأرض الفلسطينية، ولم يباشر أي محاسبة لها على تجبرها وإجرامها. ويذكرنا اليوم، ثالثاً، بالتخلف والعجز والقصور التي ميّزت رد الجسم العربي على السم الإسرائيلي الذي حقن في شرايينه ووجدانه فبقي إزاءه بلا مناعة ولا استراتيجية، فلا حروبه أنجزت ولا سلامه تمكن من ردع استمرار الوحشية الإسرائيلية. لم تبدأ النكبة كـ"نظرية مؤامرة"، كانت مؤامرة رتبتها تسويات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وها هي لا تزال حية تسعى. فحتى ما لم ينجز بالحرب وموازين القوى والتفوق العسكري يجري تحقيقه الآن تحت غطاء أن ثمة "عملية سلام". تدرج عدو العرب من استجداء أي اعتراف إلى الاستهزاء بأي تطبيع معه، ومن خشية الحروب رغم أن يكسبها إلى خشية السلام لأنه يناقض طبيعة ولادة دولته. بل تدرج من ترويض العالم العربي وتحييده، وهو ماض الآن في ترهيب الشعب الفلسطيني لإخضاعه بقتل كل الخيارات أمامه، فلا "حل الدولتين" ممكن ولا وهم "الدولة الواحدة للشعبين" متاح، وكل ما بينهما لا يطرح سوى بقاء الاحتلال ودوام الصراع. كان التدمير الصهيوني المنهجي لأكثر من ثلاث مدن فلسطينية وقراها، خلال أعوام ما قبل التقسيم وما بعده، هو الذي أسس لواقع الظلم في الشرق الأوسط وأصاب العالم العربي بضرية قاضية وهو على عتبة الخلاص من الوجود الاستعماري والانتدابي للشروع في تجربة الاستقلال، ولعلها بقيت مجرد "تجربة" إذ لم ترتق إلى مصاف إنشاء دولة أو دول متصالحة مع شعوبها. وبدت المذابح المتنقلة في تلك الأعوام بمثابة تأسيس إسرائيلي- صهيوني لنهج الشدة والبطش في منطقة مقبلة على إنشاء "أنظمة" حكم جديدة أغراها الانزلاق المبكر إلى التعسكر تحت راية استعادة الأرض السليبة أو تحريرها. شيء كثير من النكبة لا يزال يدبّ في أوصال العالم العربي، أو أنه يتراءى الآن في غمرة الثورات والانتفاضات الراهنة. تبدو التحولاّت الجارية وكأنها برد وسلام لإسرائيل، إذ أن المراحل الانتقالية المرشحة لأن تطول لا تحتم عليها الهجس بأي حروب لسنوات مقبلة، وإن كانت لا تعفيها من القلق على المستقبل. واقعياً، يمكن تصوّر أن هذه التحولاّت العربية لم تكن ضرورية فحسب وإنما تأخرت بضعة عقود من الزمن، ولعلها كانت متوقعة لو قدّر لـ"السلام" أن يتحقق في المنطقة، لأن الصراع مع إسرائيل قدّم دائماً على أنه أحد كوابح التغيير الداخلي. لكن أي سلام متصور للمستقبل، بمعزل عن أشكال الأنظمة الآتية، لا يمكن أن يقترب مما يتخيله الإسرائيليون من قبول بالأمر الواقع الذي أمضوا كل العقود السابقة في فرضه بالقوة. النكبة، اليوم، هي قبل كل شيء شعب فلسطيني محكوم بانقسام نخبته "الحاكمة" التي تبحث عن "مصالحة"لا تريدها ولا تستطيعها وباتت عاجزة عن تحمل مسؤوليتها. والنكبة، اليوم، كمصطلح تضغط إسرائيل لإلغائه -بالقوة أيضاً- يعني أولاً وأخيراً أن خمسة ملايين لاجئ فلسطيني لا يزالون مسجلين لدى وكالة الغوث (الأنروا) وأن تسعة وخمسين مخيماً للاجئين لا تزال قائمة بين الأردن وسوريا ولبنان والضفة والقطاع. والنكبة، اليوم، هي أن الإسرائيلي لا يزال فالتاً من أي محاسبة ولا يزال يسرق الأرض، فجدار الفصل العنصري وحده ابتلع 13 في المئة من مساحة الضفة، والسيطرة على غور الأردن تسلب 28 في المئة منها. والنكبة، اليوم، أن حكومة "اليمين المتطرف" لا ترى موجباً لإقحام إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام على جدول أعمالها، فهذه بالنسبة إليها مجرد مسألة أمنية تعالجها الأجهزة المختصة.