الدول العربية التي ركبت موجة الانفتاح السياسي أدركت اليوم أن تجذير لبنات الديمقراطية من أصعب الأمور خاصة فيما يتعلق ببناء وعي سياسي جديد بالمجال السياسي، فهذا الوعي الذي يجب أن تليه تطبيقات فعلية في المجال العمومي- السياسي يستدعي جهداً فعليّاً، لا مجرد إعلان نيات أو خواطر أو تركيب أساليب رنانة ومدوية أو استبدالات لغوية يجد فيها المتفحص اللبيب علامات الانحطاط ما دامت تنتبه إلى القشور وتذهل عن المضامين الحقيقية، فالتبشير بأفكار السابقين الأولين من فلاسفة التنوير فيما يخص الانتخابات النزيهة وحكم الشعب بالشعب وتصور دستور من المستوى الرفيع لم يعد يكفي، فالأمر أكبر من مجرد زرع مبادئ ونشرها... إنه كما يقول الأستاذ عبد الإله بلقزيز إنتاج عقل سياسي عربي حديث قابل لأن يشتبك اشتباكاً نظريّاً تاريخيّاً ناجحاً مع معضلات الدولة والمجتمع في البلاد العربية المعاصرة فيقدم حولها معرفة علمية، ويساهم بها في ترشيد الممارسة: ممارسة عملية التغيير والتقدم. ولا غرو أن كبار المتخصصين في العالم في أدبيات الانتقالات الديمقراطية الذين أسسوا في مجال العلوم السياسية المقارنة خاصة في أميركا ما يسمى بـ(Democratization studies)، وعلى رأسهم فيليب شميتر وألفرد ستيبان ميزوا في مسيرة الدول التي تعرف انهيار النظام السلطوي بين التحول الديمقراطي وتثبيت الديمقراطية، بمعنى أن التحول لوحده لا يكفي لتكريس الفكرة الديمقراطية على الواقع وفي عقل أولئك الذين كانوا ضحايا غيابها، ودفعت أوطانهم غاليّاً ثمن ذلك الغياب. فالديمقراطية تبقى في خانة الانتظار إذا لم يتغير المجال السياسي المغشوش من سلطة ودولة ومجتمع مدني وأحزاب سياسية إلى مجال سياسي حقيقي يتساوى فيه الجميع ويتبارز فيه الفاعلون على قواعد ديمقراطية تحكمهم بعد تدمير البنيات التقليدية من وعي ومؤسسات كانت تحجز التطور وتكبح سيرورة التاريخ. بعد دخول المجتمع السياسي الحديث إلى هذه الخانة، يمكن أن نسمي الدولة الجديدة بالدولة الديمقراطية لأننا نكون قد انتقلنا من فترة التحول الديمقراطي إلى فترة التثبيت الديمقراطي، وبمعنى آخر، أيّاً كان التغيير ونوعيته وطريقته، عن طريق تدخل أجنبي أو عن طريق ثورة أو عن طريق تأثير الدول المجاورة أو عن طريق الميثاق التعاقدي، فإن تثبيت الديمقراطية يبقى رهيناً بالمسار الذي يعطيه الفاعلون للتحول: فإما أن يؤدي بالبلاد والعباد إلى بر التغيير الجذري الذي يخلق منظومة معرفية وتطبيقية سياسية كاملة حول الحق الطبيعي والتعاقد والمواطنة وإما إلى واد غير ذي زرع من سلطوية جديدة يبقى الفاعلون البارزون كالجيش مثلاً خلف الستار يحكمون ويسيرون. والأجدر بالفاعلين الكبار عندما تصل دولة من الدول إلى نقطة التحول الديمقراطي (التي لا تعني إطلاقاً وصول قاطرة الديمقراطية نهائيّاً) هو إعمال العقل وإعادة قراءة دور المؤسسات والدولة في هذا المجال السياسي الجديد وتصور قانون أسمى للبلاد وإعماله بطريقة سريعة ومرْضية للجميع عن طريق الاستفتاء الشعبي. فلتتصوروا معي ماذا كان سيقع في المغرب لو لم يسرع العاهل المغربي في خلق ميكانزمات دستور جديد من الجيل الرابع، لو أن الفاعلين الكبار بمعنى المؤسسة الملكية والأحزاب اتفقت على أن صياغة الدستور الجديد تكون بعد كبير تريث وبعد انتخاب لجنة تأسيسية أو بعد انتخابات برلمانية تشريعية، لكان المغرب قد ضيع الفرصة الحقيقية التي يعيشها اليوم والسلم الاجتماعي الذي حققه اليوم... إن الإسراع والتعقل أفضل بكثير من التريث وتضييع الوقت. قد يتفق العديد من القراء معي عندما قلت مراراً في صفحات هذه الجريدة الغراء إن الثورة الفعلية هي الديمقراطية، التي هي أولاً قوانين ونصوص وتشريعات، وثانيّاً تغير مادي فعلي لمفهوم السياسة كمسألة عامة ولمفهوم السلطة كملكية جماعية، ولكن ما الأفضل؟ أن تفعل وتكتب أدوات الثورة الدستورية أولاً -وقواعدها معروفة عند كل فقهاء القانون الدستوري والقانون العام- ليكون هناك قانون أسمى يحكم الجميع، ثم تبدأ الدولة رويداً رويداً في خلق المؤسسات وإعمال القواعد والانتخابات ويقع بذلك التحول الجوهري في الثقافة السياسية للمجتمع وفي علاقات الاجتماع المدني ليبلغ المجتمع نصاب الثورة الثقافية-الديمقراطية، أو تبقى الدولة مذبذبة بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء! وعكس هذا الكلام يكون صحيحاً لو بقي رأس النظام السلطوي القديم في الحكم وهو يزين لدستوره القديم ويقول للجميع إنه يقوم بثورة دستورية حقيقية... ثم إنه عندما يعطي الكثير من الوقت للفاعلين في المجال السياسي الجديد، فإما أن يكثر عددهم إلى درجة تستحيل معها قيادة سفينة صياغة الدستور الجديد أو أن توصل نوعية التقطيعات الانتخابية أو الظروف الانتخابية العامة في بلدان لم تعرف أية تجربة ديمقراطية في حياتها، بحزب أو أحزاب ذات فكر سياسي معين ينفي التعددية أو يتصورها بعيداً عن قواعد الحيوية والتقدم، وهنا تقع المصيبة الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة. إن تثبيت الديمقراطية أمر صعب، كما أن التحول الديمقراطي قد يعرض الحياة السياسية إلى أزمات جديدة غير قابلة للحل، وقد يقفل مجال السلطة في وجه قوى المجتمع المختلفة إذا لم تضخ حيوية جديدة في النظام السياسي والنظام الاجتماعي بعيداً عن الارتجالية والشعبوية أيّاً كان مصدرها، وإذا لم تصوب العلاقة بين الدولة والمجتمع لتعلو بذلك عن المستوى الفئوي المغلق إلى رحاب الأفق الوطني الحاضن للجميع، وفي بداية تجربة مصر الحديثة الكثير من الدروس والعِبر.