يعاني كل من التعليم الطبي، ونظم الرعاية الصحية، ومجال الأبحاث الطبية، من خلل هيكلي مزمن، يتمثل في التعامل مع الأمراض والعلل التي تصيب أفراد الجنس البشري بشكل أحادي منفصل عن بقية الاختلالات والاضطرابات المتزامنة. بمعنى أن طالب الطب حينما يدرس مرضاً ما، كالسكري مثلاً، يدرسه بشكل مستقل لا يأخذ في الاعتبار علاقة هذا المرض بأمراض أخرى متزامنة قد تصيب نفس الشخص، وفي الوقت ذاته، مثل السرطان، أو الاكتئاب، أو أمراض القلب، أو السكتة الدماغية، أو غيرها من الأمراض. وهو ما ينطبق أيضاً على نظم الرعاية الصحية، وعلى مجال الأبحاث الطبية، اللذين يتعاملان ويبحثان في الأمراض كلاً على حدة وبشكل أحادي مستقل عن بقية الأمراض والعلل، على رغم أن عدداً متزايداً من الأشخاص، يعانون من مرضين مزمنين -أو أكثر- بالتزامن وفي الوقت نفسه، وهو ما يطلق عليه طبياً مصطلح "تعدد العلل" أو "تعدد الأمراض" (Multimorbidity). وهذا الواقع أكدته بداية هذا الأسبوع، دراسة نشرت في العدد الأخير الدورية الطبية البريطانية المرموقة (The Lancet)، وشملت قرابة المليوني مريض تحت سن الخامسة والستين، في 314 عيادة ومركزاً طبياً في اسكتلندا. ومما أظهرته نتائج هذه الدراسة، أن 42 في المئة من المرضى مصابون بمرض أو أكثر، و23 في المئة منهم مصابون بمرضين أو أكثر، وهو ما يعني أن 35 في المئة فقط من المليوني مريض المسجلين في تلك العيادات والمراكز الطبية، يعانون من مرض واحد، بينما كان 65 في المئة أو الثلثان يعانون من تعدد العلل أو تعدد الأمراض. وإذا ما نظرنا لتلك الأمراض بشكل مستقل، كأمراض الشرايين التاجية المغذية لعضلة القلب، فسنجد أن 9 في المئة من هؤلاء المرضى كانوا مصابين بقصور الشرايين التاجية فقط، بينما كان 91 في المئة منهم يعانون من مرض آخر، أو أكثر. وهو ما ينطبق أيضاً على الأمراض السرطانية، حيث كان 23 في المئة من هؤلاء المرضى مصابون بالسرطان فقط، بينما كان 77 في المئة منهم أيضاً يعانون من مرض آخر، أو أكثر. وتكمن المشكلة في هذا الوضع، أن تعليم طلبة كليات الطب، وكيفية تنظيم وتنفيذ الأبحاث الطبية، لا يأخذ في الاعتبار هذا الواقع، بل يتعامل مع كل مرض على حدة، دون الأخذ في الاعتبار، بشكل منهجي منظم، تأثير مرض ما على الأمراض الأخرى المتزامنة، أو كيفية تأثره بها. وإن كانت المشكلة الأكبر تقع في طريقة تنظيم خدمات الرعاية الصحية، وخصوصاً خلال العقود القليلة الماضية، التي شهدت تزايداً في التخصص بين الأطباء، وتراجعاً في دور الممارس العام، أو طبيب العائلة. وهذا التغير قد يكون مرده إلى خطأ الاعتقاد بأن الطبيب المتخصص أكثر علماً وفهماً من الطبيب العام، وهو ما قد يكون صحيحاً في حالة الأمراض الأقل شيوعاً أو النادرة. ولكن في حالة تعدد العلل أو الأمراض، يعتبر الطبيب العام هو الأفضل، لدرايته بالجوانب المختلفة لتلك الأمراض، على عكس الطبيب المتخصص الذي قد يتراجع بشكل كبير عمق إدراكه للأمراض التي تقع خارج تخصصه. وربما كان أيضاً من الأسباب التي أدت إلى تراجع دور الطبيب العام مقابل دور الأخصائيين في نظم الرعاية الحديثة، قدرة الطبيب المتخصص على طلب أجر أكبر لخدماته، كونه متخصصاً، أو انتشار المفهوم العام والخاطئ بأن الطبيب العام أقل علماً ومكانة طبية من الطبيب المتخصص. وهذا الاختلال في نظم الرعاية الصحية أدركت الدول المتقدمة في الآونة الأخيرة، وخصوصاً الدول الأوروبية، تأثيره على نوعية الخدمة المقدمة للمريض، في شكل تجزئة إدارة حالته الطبية بين عدد من الأخصائيين، بالإضافة إلى تضخم تكلفة رعاية هذا المريض، مقارنة بتكلفة رعايته من خلال طبيب عائلة أو طبيب عام مع اللجوء فقط للأخصائيين في حالة ما تطلب الوضع ذلك. وحجم هذه التكلفة أصبح يهدد العديد من نظم الرعاية الصحية بالانهيار المالي، في ظل الإحصائيات الصحية الدولية التي تظهر تزايد عدد الدول التي أصبحت تواجه عبئاً مرضيّاً مضاعفاً، نتيجة انتشار عوامل الخطر المؤهلة للإصابة بالأمراض غير المعدية المزمنة، مثل السكري، وأمراض القلب والشرايين، والأمراض السرطانية، في الوقت الذي لا زالت فيه هذه الدول تكافح لخفض الوفيات بين الأمهات أثناء وبعد الحمل، والوفيات بين الأطفال -وخصوصاً الرضع منهم- نتيجة الأمراض المُعدية. ومما يزيد الطين بلة، أن الدراسة الإسكتلندية سابقة الذكر، اكتشفت أن الأمراض المزمنة المتزامنة، تنتشر بمعدلات أكبر في المناطق السكنية الفقيرة، وبين طبقات المجتمع المتعثرة اقتصاديّاً، كما أنها تقع بين سكان هذه المناطق، وبين أفراد تلك الطبقات، في عمر مبكر، بعشرة أو خمسة عشر عاماً، مقارنة بسكان المناطق الغنية، وأفراد الطبقات الميسورة ماديّاً. وأمام هذا الوضع برمته، ولمنع تعدد العلل والأمراض من التسبب في انهيار نظم الرعاية الصحية، لابد من "إعادة هندسة" المنظومة الطبية بأكملها (Healthcare Reengineering)، بدءاً من طريقة تعليم وتدريس أطباء المستقبل، مروراً بتنفيذ وتحليل الأبحاث والدراسات الطبية، ونهاية بتنظيم الرعاية الصحية لهؤلاء المرضى، بشكل يحقق الشمولية في إدارة الحالة الصحية بجوانبها المختلفة، ويمنع تجزئة الرعاية المقدمة، ويضمن الاستثمار بقدر مناسب في إجراءات الوقاية الأولية، مثل التثقيف الصحي والغذائي، وتغيير نمط الحياة والسلوك الشخصي، أحد أهم عوامل الخطر خلف ارتفاع احتمالات الإصابة بعدد من الأمراض المزمنة.