مرة أخرى فعلها نتنياهو المعروف بمناوراته ودهائه السياسي، فقبل لحظات فقط على مصادقة البرلمان الإسرائيلي على قانون تنظيم انتخابات مبكرة أعلن حزب "كاديما" أنه أنهى مفاوضاته مع رئيس الوزراء، وأنه سينضم إلى حكومة ائتلاف موسع هي الأكبر من نوعها في تاريخ إسرائيل تشمل 94 نائباً من أصل 120 نائباً في "الكنيست" الإسرائيلي. وبالطبع كانت لهذه الخطوة تداعيات في عموم المنطقة، فضلاً عن التعليقات التي أثارها الإعلان في الولايات المتحدة عن المغزى الحقيقي من هذا التحرك المفاجئ على الساحة الإسرائيلية. وخلال الأيام القليلة التي أعقبت إعلان التحالف الحكومي الموسع في الدولة العبرية كان مذهلاً متابعة القراءات المتعددة للمعلقين العرب والإسرائيليين والأميركيين الذين سعوا كلاً من موقعه إلى سبر أغوار هذه الخطوة الإسرائيلية وفهم الهدف من تشكيل حكومة ائتلاف موسع في تل أبيب. وفي هذا السياق ذهب العديد من المراقبين العرب إلى التحذير من أن التحرك الإسرائيلي قد يكون نذير حرب جديدة في المنطقة بالنظر إلى السوابق التاريخية التي تثبت هذا التوجه، ولاسيما الائتلاف الحكومي الذي شُكل عشية حرب عام 1967. وأوضح أحد المحللين العرب هذا الموقف المتخوف من الخطوة الإسرائيلية بالقول إنه "تحالف حرب"، مشيراً إلى أن الهدف قد يكون إيران أو لبنان. أما الصحافة الأميركية المتوهمة دائماً بشأن "النوايا الحسنة" لإسرائيل فقد نظرت في مجملها إلى الإعلان عن تشكيل حكومة ائتلافية في تل أبيب على أنه خطوة "إيجابية"، واعتبر الليبراليون الأميركيون أن الحكومة الموسعة ستمنح نتنياهو تفويضاً أقوى يستطيع بموجبه التحرك بثقة نحو اتفاق للتسوية مع الفلسطينيين، قائلين إن إسرائيل "تحت قيادة نتنياهو أقوى من أي وقت مضى". وهذا الرأي المتفائل ينسجم مع الانتقاد المبطن من قبل وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، لنتنياهو بأنه لن يعود بمقدوره التحجج بفقدان أغلبيته الحكومية إن هو اتجه إلى السلام مع الفلسطينيين، ولاسيما أنه اليوم في موقع سياسي مريح يمنحه الفرصة، على الأقل، لتعزيز الحوار مع السلطة الفلسطينية. غير أن المحافظين الجدد تبنوا النظرة العربية للتحرك الإسرائيلي وإن كان من زاوية مختلفة، ففيما عبر العرب عن خشيتهم من الحكومة الجديدة وما قد تحمله من نذر حرب مدمرة في المنطقة، بدا المحافظون الجدد متحمسين لأية مغامرة عسكرية جديدة. ولكن الملفت في جميع التعليقات هو ما جاء على لسان المحللين الإسرائيليين الذين اعتبروا هذه المناورة السياسية من طرف نتنياهو وشريكه الجديد شاؤول موفاز عنواناً للضعف وليس القوة، وهو ما جعل العديد من الكتاب اليهود يذهبون إلى أن التحالف الموسع سيعيق عمل الحكومة وربما يدخلها في مرحلة من الشلل العقيم بعيداً عن أية قدرة على التحرك سواء لجهة شن حرب في المنطقة، أو التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. ولعلَّ التحديات الداخلية التي يواجهها نتنياهو اليوم تجعل من هذا الشلل أمراً مطلوباً للتهرب من اتخاذ المواقف الحاسمة، فخلال أسابيع قليلة سيكون على الحكومة التعامل مع قرارين قضائيين يتعين تنفيذهما، الأول مرتبط بقرار يقضي بعدم دستورية إعفاء اليهود المتدينين من أداء الخدمة العسكرية أسوة بباقي المواطنين الإسرائيليين. والقرار الثاني ينص على إعطاء الحكومة مهلة حتى شهر يونيو المقبل لإخلاء مستوطنات غير شرعية في إحدى المناطق الفلسطينية بالضفة الغربية. ومثل هذه القرارات القضائية ستؤدي إلى تصدع الائتلاف الحكومي، ولاسيما فيما يتصل بالحزب المتطرف الذي يقوده وزير الخارجية، أفيجدور ليبرمان، الذي هدد بمغادرة الحكومة إن هي لم تنفذ قرار المحكمة بعدم إعفاء المتدينين من الخدمة العسكرية. ولكن بإقدام نتنياهو على توسيع الائتلاف الحاكم يكون قد سحب البساط من تحت أقدام الأطراف السياسية المعارضة له داخل الحكومة، بحيث لا يكون في مقدورها إسقاطه، وهنا يتضح الهدف من الائتلاف الموسع المتمثل في إنقاذ نتنياهو سياسيّاً وإطالة أمد بقائه في السلطة، فبدلاً من قيادة الحكومة من خلال اتخاذ قرارات حاسمة ومواجهة المستوطنين والمتطرفين فضل نتنياهو قبول خط الإنقاذ الذي منحه موفاز للبقاء لمدة أطول على رأس الحكومة. والأمر نفسه ينطبق على شاؤول موفاز الذي يواجه حزبه، "كاديما"، تراجعاً كبيراً في استطلاعات الرأي التي أشارت إلى أن أداءه في الانتخابات البرلمانية سيكون ضعيفاً ولن يحصل فيها على أكثر من عشرة مقاعد مقارنة بمقاعده الـ28 في البرلمان الحالي، ولذا شكل دخول الحزب في ائتلاف حكومي مع "الليكود" خياراً أكثر أماناً من مواجهة الهزيمة في الانتخابات. ومهما كانت قراءة وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، محقة بشأن انتفاء الحجج التي كان يسوقها نتنياهو للتهرب من استحقاق السلام، تبقى الحقيقة ما ذهب إليه المعلقون الإسرائيليون الأعلم بمناورات نتنياهو، والذين قرأوا الخطوة الأخيرة في إطار محاولات نتنياهو تمديد حالة الشلل التي تمكنه من الاستمرار في المماطلة، ولعلَّ الدليل الأمثل على عدم اهتمام نتنياهو بالسلام اقتراحه إصدار تشريع جديد يضفي الشرعية على المستوطنات التي قضت المحكمة بعدم شرعيتها، ولذا يجب عدم توقع الكثير من الحكومة الائتلافية الموسعة سواء لجهة السلام، أو حتى شن الحرب، لأن ما حركها في الأساس اعتبارات سياسية داخلية تندرج في سياق الصراع على السلطة والاستمرار فيها.