ثمة حقائق وأرقام لا بد من استحضارها والتمعن فيها، وجمهورية إيطاليا الصديقة تحتفل هذا العام بالذكرى الخمسين بعد المائة لوحدة ترابها في كيان وطني جامع، خصوصاً إننا نكثر الحديث هذه الأيام عن وحدة خليجية مرتقبة. تعتبر إيطاليا اليوم رابع أقوى دولة أوروبية من بعد ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وهي ركن ركين من أركان الاتحاد الأوروبي، الذي انطلق بمباركة إيطالية – ألمانية – فرنسية مشتركة في عام 1951 تحت اسم "الجماعة الأوروبية للفحم والفولاذ". ومن جانب آخر فإن إيطاليا التي تعتبر سادسة دول العالم من حيث السكان، تأتي في المرتبة الرابعة عالمياً من حيث موجوداتها من احتياطات الذهب ( 2.5 طن)، الأمر الذي يجعلها أقل من الولايات المتحدة وألمانيا وأكثر من فرنسا والصين بقليل، وتأتي في المرتبة الـ 18 عالمياً من حيث الأمم الأكثر تقدماً، وفي المرتبة السابعة عالمياً من حيث الناتج المحلي الكلي، وفي المرتبة العاشرة من حيث القوة الشرائية، وفي المرتبة الخامسة لجهة حجم الميزانية الحكومية. إلى ذلك احتلت إيطاليا في 2010 أحد المراكز العشرة الأولى لجهة أفضل الأماكن في العالم للحياة، واحتلت في 2009 المرتبة الثانية عالمياً لجهة أفضل نظم الرعاية الصحية، والذي بفضله وصلت البلاد إلى المركز الـ 19 من حيث متوسط الأعمار المتوقع، (طبقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية)، واحتلت إيطاليا في 2007 المركز الخامس عالمياً لجهة عدد السياح والزوار، حيث زارها في العام المذكور نحو 43.7 مليون زائر، وهذا، طبعاً، يجب ألا يثير استغراباً لأن إيطاليا طبقاً للحفريات أستـُوطنت منذ العصر الحجري، أي منذ نحو 200 ألف سنة، كما كانت مهد الثقافات والشعوب الأوروبية مثل الرومان، ومهد حركة النهضة الأوروبية الغنية التي أثبتت قدرتها على تشكيل مسار الفكر الأوروبي الحديث، وبالتالي فإن إيطاليا يصدق فيها وصف "متحف العالم للفنون والآثار"، لأنها زاخرة بألوان من الآثار والقصور والكنائس والأبنية التاريخية القديمة، والنفائس الفنية النادرة. لكل هذه الأسباب وغيرها مثل: تقدم مستويات التعليم، ووفرة القوى العاملة المدربة، والاقتصاد القوي القائم على الصناعة والزراعة والسياحة والمعرفة والتصدير، واستضافة روما لمقرات منظمة الأغذية والزراعة الدولية، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، وكلية دفاع حلف الناتو، ناهيك عن عضوية إيطاليا في الاتحاد الأوروبي و"الناتو" ومجموعة الثمانية ومجموعة العشرين، فإن هذا البلد بات يلعب دوراً عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً وثقافياً بارزاً في أوروبا والعالم، وصار يمتلك نفوذاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً على الساحة الأوروبية، لا يختلف كثيراً عن نفوذ البريطانيين والألمان والفرنسيين والروس. كل هذه الحقائق والأرقام ماكانت لتتحقق لولا نجاح إيطاليا الباهر – من بعد تصدع وانشقاق وحروب وتفش للجريمة المنظمة – في بناء كيان ديمقراطي تعددي موحد، ومجتمع يسوده السلام والطمأنينة والازدهار والرخاء. وبعبارة أخرى فإن كل ما حققته إيطاليا يـُعزى أولاً وقبل كل شيء إلى ما قام به قادتها التاريخيون الأفذاذ من أمثال "جوزيبي غاريبالدي" و"كاميلو بينزو"، و"جوزيبي مازيني" قبل 150 عاماً، حينما أطلقوا عملية "إعادة الولادة" والتي بدأت بتوحيد ممالك الشمال قبل توحيدها مع ممالك الجنوب. فقبل ذلك كانت إيطاليا مجزأة إلى العديد من الممالك والدول والمدن الصغيرة المستقلة المتناحرة مثل مملكة سردينيا ومملكة صقلية ودوقية ميلانو ومملكة نابولي. إن تجربة الوحدة القـُطـْرية الإيطالية تعطينا نحن العرب، في الخليج وخارجه، دروساً مفيدة لعل أبرزها أن الطريق إلى الرخاء والازدهار والقوة يبدأ أولاً بتحقيق الوحدة الوطنية الداخلية ما بين مكونات المجتمع المختلفة إثنياً ومذهبياً وثقافياً وجهوياً، قبل أن نتطلع إلى الحلم الذي راود الكثيرين من المفكرين القوميين العرب منذ بواكير القرن العشرين في تحقيق الوحدة العربية الشاملة من المحيط إلى الخليج. وفي هذا السياق يقول المفكر البحريني د. محمد جابر الأنصاري في أحد مقالاته الصحفية:"إن الدولة الوطنية هي محصلة تطور تاريخي طويل الأمد نحو التوحيد والتوحد، والوطن في السياق العربي تتنازعه قوى متضادة دون وطنية كالقبائل والطوائف والجهويات، وقوى فوق وطنية كالنزعات العامة إلى الوحدة العربية والوحدة الإسلامية، ولكن لا بد للوطن من أن يتحد أولاً قبل تحقيق هذه المشروعات الوحدوية الكبيرة". وفي مكان آخر من ذات المقال كتب"الأنصاري" ما معناه: "أنه لكي تكون هناك دولة بالمعنى الدقيق المتعارف عليه، لا بد لها من أن تصهر مكوناتها في إطار جامع يستند إلى العدالة والمشاركة والمساواة في الحقوق والواجبات التي هي سمة من سمات العصر. وهذا تحديداً ما تمخضت عنه التجربة الإيطالية من بعد طول انتظار. أما عن علاقات الخليج التاريخية مع إيطاليا، فإن المرء لا يجد فيها الكثير، لسبب بسيط هو أن إيطاليا لم تكن من القوى الاستعمارية قبل الحرب العالمية الأولى، وبالتالي لم تمد بصرها إلى منطقة الخليج كما فعل البريطانيون والفرنسيون والألمان والهولنديون والبرتغاليون في وقت مبكر. غير أن هناك حدثين فقط يمكن الإشارة إليهما في سياق الحديث عن تلك العلاقات: الأول سلبي وتمثل في قيام سرب من المقاتلات الإيطالية بقيادة إبن الحزب الفاشي المدلل الطيار "إيتوري ميوتي" بعملية قصف لمصافي النفط في جزيرة "سترة" البحرينية في عام 1940 ( تضمنت العملية، التي توصف بأخطر مغامرة في تاريخ الطيران الحربي، أيضا قصفاً خاطئاً لمنشآت النفط السعودية في مدينة الظهران) ، وذلك على النحو الذي فصله الباحث "حمد عبدالله" في كتابه "إيتوري ميوتي: أسطورة إيطاليا الفاشية". والثاني إيجابي وتمثل في قيادة الدبلوماسي الإيطالي " فيتوريو وينسبير جيوشياردي" في عام 1970 لبعثة تقصي الحقائق الأممية حول رغبات الشعب البحريني في ما خص مستقبل بلده في ظل إدعاءات إيران بتبعية البحرين لها، وذلك على النحو الذي فصله كاتب هذه السطور في كتابه " فيتوريو وينسبير جيوشياردي: دوره في تأكيد سيادة وعروبة البحرين". ومن المهم هنا الإشارة إلى أن طهران اشتكت روما لدى "عصبة الأمم" حينما أغارت المقاتلات الإيطالية على"سترة"، بدعوى أن ذلك العمل اعتداء على أراضيها.