ربما يكون الشيء الإيجابي الوحيد في الركود الكبير الذي يضرب الولايات المتحدة، وغيرها من البلدان بالطبع، هو أنه أطلق شرارة ما يمكن لنا أن نطلق عليه "تركيز متجدد" على تصنيع الولايات المتحدة. فبعد أن أُقنعت على مدى خمسة وعشرين عاماً برؤية زائفة وبراقة حول الاقتصاد ما بعد الصناعي القائم على الخدمات في الأساس، تعيد الولايات المتحدة في الوقت الراهن، إعادة اكتشاف مدى أهمية تصنيع الأشياء من أجل تشجيع الإبداع، ورفع الأجور، وزيادة الصادرات، وخفض العجز التجاري. فحسابات التكلفة التي تجريها الشركات والمؤسسات، دعمت الاهتمام المتجدد لتصنيع الولايات المتحدة. فسياسات التصنيع السابقة القائمة على فكرة "التعهيد"، أي تكليف جهات خارجية بإنجاز خدمات أو تنفيذ عمليات صناعية وغيرها لحساب مؤسسات وشركات أميركية في الداخل، كانت تقوم على استغلال اعتبارات معينة تتعلق بالدول الأخرى، وتشجع على نقل الصناعات للخارج، من تلك الاعتبارات: الأجور المتدنية للغاية( سابقاً) في الدول الأجنبية مثل الصين، واستراتيجيات البنى التحتية لتلك الدول، بالإضافة إلى تقديمها للعديد من الإغراءات وعوامل الجذب للشركات الأميركية. وهذه العوامل تغيرت في الوقت الراهن، حيث ارتفعت الأجور وتواصل ارتفاعها في الصين، علاوة على المخاوف المتزايدة لدى الشركات والمؤسسات الأميركية التي تُشغّل فروعاً لها هناك، من ضياع حقوق الملكية الفكرية الخاصة بها. علاوة على ذلك فإن الطاقة المستخدمة في التصنيع في الولايات المتحدة قد تكون أرخص من مثيلاتها في تلك الدول علاوة على أنها أكثر أماناً واستقراراً. كذلك فإن "التسونامي"، الذي حدث في اليابان التي تقدم جزءاً كبيراً من المكونات التي تدخل في الصناعات فائقة التقنية، قد كشف عن هشاشة سلاسل إمداد الشركات الأميركية، الواقعة في أماكن نائية. والمفتاح لإعادة إحياء التصنيع وتشجيع الصادرات في الولايات المتحدة، يمكن العثور عليه في المدن الميتروبوليتانية الكبرى مثل لوس أنجلوس وشيكاغو. وصورة التصنيع في المراكز الحضرية الكبرى في الوقت الراهن، تختلف اختلافاً بيناً عن صورتها في المراكز الصناعية الكبرى مثل "ديترويت" في منتصف القرن العشرين أي صورة المدن ذات الآفاق المغطاة بسحب الدخان، والمصانع المكتظة بالعمال، وخطوط تجميع السيارات الضخمة. فالتصنيع اليوم يشتمل على مؤسسات وشركات متخصصة أصغر حجماً، تعتمد على التقنية المتقدمة، والعدد الأقل من العمال الذين تتوافر فيهم مهارات أكثر تطوراً وأكثر تنوعاً مقارنة بتلك التي كانت تتوافر لنظرائهم في الماضي. والصناعة اليوم تقوم كذلك على التكامل والتفاعل بين الشركات والمؤسسات المختلفة وعلى تأثر بعضها ببعض سواء من ناحية تطوير أساليب التصنيع، أو زيادة كميات المنتجات. وعواصم الولايات والمدن الكبرى هي البيئة المناسبة التي توفر الإمكانيات لذلك كله، بما تتمتع به من اتساع في المسافة وكثافة في السكان. وعندما تغذي كل شركة غيرها من الشركات في تلك المدن، فإن ذلك يؤدي الى تحسين الإنتاجية، وتشجيع روح ريادة الأعمال، وزيادة مستويات التشغيل، وارتفاع الأجور. ولكن ما الذي تحتاجه الشركات والمؤسسات من حكومات الولايات المختلفة؟ إنها بالتأكيد لا تحتاج إلى علم الصواريخ، وإنما تحتاج إلى أن تكون تلك الحكومات فعالة وقادرة على الإنجاز، وعلى توفير احتياجات تلك الشركات، وتشجيعها على الدخول للأسواق الأجنبية، وتفعيل اتفاقياتها التجارية وحماية حقوقها الفكرية، ومساعدتها في الحصول على المعلومات التي تحتاج إليها عن الأسواق الناشئة عن طريق القنصليات الأميركية في الخارج. الشركات الأميركية تحتاج أيضاً إلى من يساعدها أيضاً على التواصل مع المستهلكين المحتملين، ودعم صادراتها، وتوفير الاحتياجات والموارد اللازمة لتحديث المراكز اللوجستية في موانئ التصدير الكبرى مثل ميناءي لوس أنجلوس ولونج بيتش على سبيل المثال لا الحصر. تحتاج تلك الشركات والمؤسسات أيضاً إلى مواقع آمنة ومستقرة كي تمارس فيها نشاطها، من خلال إنشاء مناطق صناعية مزودة بكافة الإمكانيات والبنى التحتية. وفي النهاية تحتاج تلك الشركات والمؤسسات إلى النصيحة العملية المتخصصة في الداخل، وإلى المزيد من الاتصالات والروابط مع الخارج، مع إقامة الشراكات مع المؤسسات، خصوصاً في المراكز التجارية المزدهرة في الصين والدول الآسيوية. إن الإرث الصناعي الغني قد زود المدن الأميركية بالشركات، والعمال المهرة، ومعاهد وكليات التعليم المتطور، والأبحاث المتقدمة، والقوة الإنتاجية اللازمة للتحرك نحو رؤية اقتصادية جديدة. لقد كان الركود الكبير الذي ضربنا بمثابة نداء إيقاظ للأمة الأميركية، فدعونا نهتم بهذا النداء، ونوليه ما يستحقه من اهتمام. ريتشارد أم ديلي عمدة نيويورك السابق بروس كاتز نائب رئيس معهد بروكنجز ورئيس مبادرة المدن العالمية ينشر بترتيب خاص مع خدمة"إم.سي.تي إنترناشيونال"