لعل أهم مشهد تاريخي عرفته مصر في عهدها الحديث، كان تنحي رئيس مصري من الحكم وتخليه عن منصبه، مضطراً وتحت ضغوط ثورة شعبية هائلة. ذلك ما يصور تفاصيله كتاب "الساعات الأخيرة في حكم مبارك"، لمؤلفه الصحفي ورئيس تحرير أسبوعية "المصور"، عبدالقادر شهيب الذي يَذكر أن آخر مرة رأى فيها مبارك كانت يوم 23 يناير، حيث بدا له على غير حالته الطبيعية، ربما بسبب المعلومات الاستخباراتية حول الاحتجاجات المتوقعة يوم 25 يناير. لكن الكاتب يرجح أن مبارك لم يتوقع قرب نهاية حكمه، وذلك أحد الأسباب المباشرة لحالة الارتباك والاضطراب التي سيطرت على أسلوب إدارته للأزمة التي أنهت نظام حكمه. أما الأسباب الأخرى فصاغها انفراد جمال مبارك بإدارة الأزمة، وما أدى إليها من سياسات. ويذكر الكتاب واقعة جرت خلال جولة خارجية لمبارك عام 2006، وكان المؤلف ضمن الوفد الصحفي المرافق للرئيس، فتساءل حول تعثر محاولات استيراد اللحوم من السودان وإثيوبيا، فطلب مبارك من وزير التجارة رشيد محمد رشيد الرد، فأكد الأخير أن الصفقة جاهزة للتوقيع قريباً. لكن معلومات شهيب كانت تفيد بأن محتكري اللحوم، وبدعم من الوزير يوسف بطرس غالي، استطاعوا إفشال الصفقة، لذلك ما أن غادر الرئيس المكان حتى انتحى جانباً بالوزير رشيد وأخبره بمعلوماته حول عقبات إتمام الصفقة، مستأذناً منه: هل أنشر حديثك أمام الرئيس؟ فكان رد الوزير: "لا تكتب ذلك لأننا لم نتوصل بعد إلى اتفاق على السعر، لكننا لا نريد إزعاج الرئيس". وكما يشرح المؤلف، فقد انسحب مبارك تدريجياً من ممارسة مهامه كرئيس، مكتفياً بالطقوس والمظاهر العلنية لمنصبه، عقب الجراحة التي أجراها عام 2010، حيث بدأت عملية نقل السلطة، فعلياً وليس رسمياً، لابنه جمال الذي كان يتخذ معظم القرارات المهمة. وفي ظل انسحاب الأب من مهامه، وانشغال الابن بالتحضير لتمكينه من السلطة رسمياً، كان منطقياً ألا ينتبه الأب أو الابن أو المحيطون بهما، للغضب المتراكم في نفوس المصريين. وحتى بعد اندلاع مظاهرات 25 يناير 2011، لم يستيقظ النظام من غفلته إلا بعد ثلاثة أيام، فتعامل مع الكارثة بطريقة المساومة، وحاول مقايضة الجماهير بوعود إصلاحية مقابل تركه بضعة أشهر إضافية. وفيما كان مبارك يحاول إنقاذ نفسه وأسرته، كان جمال مهموماً ببقاء سلطة والده واستمراره مشاركاً فيها، فظل حتى مساء العاشر من فبراير يتصور أن بمقدوره إنقاذ سفينة النظام الغارقة. وكما يلاحظ الكتاب، فإن الارتباك والتخبط وسوء التقدير في إدارة الأزمة، أفضت كلها إلى البطء في التصرف، فالرئيس لم يفكر في مخاطبة شعبه إلا مساء اليوم الرابع للمظاهرات، وبعد أن انهارت الشرطة وانسحبت من الشوارع وحدث فراغ وانفلات أمني كبير. وفي "الوقت الضائع"، أي بعد خمسة عشر يوماً من الثورة، قرر مبارك تكليف شفيق برئاسة الحكومة، لكن جمال الذي اضطر للاستقالة من رئاسة المجلس الأعلى للسياسات، ظل لاعباً أساسياً في إدارة الأزمة حتى ساعات قليلة قبل إعلان تنحي مبارك، في غياب جمال ودون علمه. ويعود المؤلف إلى "مقاومة جمال"، قائلا إنه تعامل مع ثورة 25 يناير وفق ذات التصور الخاطئ الذي سيطر عليه وهو يشارك والده حكم مصر، إذ كان يعتقد أن الإلقاء للمصريين ببعض الفتات السياسي والاقتصادي سوف يضمن ترويضهم وطاعتهم، لذا كان من الطبيعي أن يدير آخر أزمات النظام بطريقة خاطئة. وينقل المؤلف عن مسؤولين أن جمال في بداية الأزمة تخلص من الخيلاء والاستعلاء الذين طبعا تعامله مع المسؤولين والوزراء، وأنه انكمش على ذاته وربما رجع إلى صوابه واعترف بأخطائه وعرف قدر نفسه. لكنه سرعان ما عاد ابن الرئيس لينهج ذات النهج السابق، مما فاقم الأزمة، حيث كان يقاوم كل محاولة يقوم بها آخرون من داخل الرئاسة أو الحكومة لتحقيق انفراج في الموقف، وكان حتى يوم الأربعاء 9 فبراير يتوهم أنه سوف ينجح في إنهاء اعتصام ميدان التحرير! لكن الاضطراب الهائل الذي تعرض له الرئيس طوال 18 يوماً، جعله يقبل التنحي من الحكم. ففي يوم 10 فبراير اجتمع طنطاوي وسليمان وشفيق في وزارة الدفاع، وخلص النقاش بين الثلاثة إلى أنه لا سبيل سوى أن يعلن مبارك تنحيه عن الحكم فوراً ودون إبطاء. وفي اليوم التالي تحدث سليمان هاتفياً مع مبارك وشرح له ما يحدث، موضحاً أنه لا حل سوى التنحي فوراً وأن بيان التنحي جاهز. فوافق مبارك، ثم سجل سليمان بيان التنحي بصوته بعد أن تعذر إرسال فريق تلفزيوني إلى مبارك في شرم الشيخ. وهكذا سمعت مصر المنتفضة غضباً، بيان تنحي مبارك مساء الجمعة 11 فبراير 2011، فانتفضت فرحاً، ولا تزال أحداثها تتوالى! محمد ولد المنى ---------- الكتاب: الساعات الأخيرة في حكم مبارك المؤلف: عبدالقادر شهيب الناشر: أخيار اليوم تاريخ النشر: 2012