لم يكن هناك ما يدعو للدهشة في احتفال الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا هولاند نهاية الأسبوع الماضي، بفوزه في الانتخابات في ميدان الباستيل الشهير، الذي كان ينتصب فيه ذات يوم سجن الباستيل التاريخي الرهيب، على اعتبار أن ذلك الميدان قد ظل طويلًا هو المكان الذي يعلن منه الاشتراكيون الفرنسيون انتصاراتهم. وفي الوقت الذي أشار فيه المعلقون السياسيون إلى الأهمية الرمزية للباستيل، إلا أنهم غفلوا عن الكيفية التي تغيرت بها تلك الأهمية عبر الزمن -وهو تغير قد يحمل في طياته درساً للرئيس الجديد. وللتذكير، فعندما هاجم جمهور كبير من الفرنسيين سجن الباستيل في 14 يوليو 1789، كان ذلك الهجوم تدشيناً للثورة الفرنسية الكبرى. وعلى رغم أن السجن لم يكن يأوي حينها مساجين سياسيين، وإنما كان يضم عدداً محدوداً من مرتكبي الجرائم الصغيرة والمعتوهين؛ ومع أن المهاجمين قد احتفلوا بالمناسبة بقطع وعرض رأسي اثنين من المسؤولين الحكوميين، إلا أن ذلك لم يخفف من الجو الاحتفالي الذي ساد عقب اقتحام السجن نفسه. وفي الحقيقة أن العكس تماماً هو ما حدث، حيث تحول سجن الباستيل بين عشية وضحاها ليصبح أهم مزار سياحي في باريس، قبل أن يتقدم تاجر باريسي ثري اسمه "بيير- فرانسوا باللوي" على رأس عدد من العمال يفوق الجموع التي هاجمت السجن، كي يقوم بهدمه وتسويته بالأرض. وبعد هدمه تم جمع الحجارة والطوب والحديد والأخشاب التي كان يتشكل منها مبناه وتحويلها إلى تذكارات شملت محابر، ورقع دومينو، وعلب نشوق "سعوط"، وخناجر... وغير ذلك. وحتى بعد أن اختفى السجن ذاته من الوجود، فإن الموقع الذي كان لا يزال يتناثر فيه بعض الحطام ظل يؤمه الزائرون من فرنسا أو من غيرها. وفيما بعد قامت الحكومة الثورية، التي لم تكن واثقة بما يتعين عليها فعله بهذه المساحة الضخمة التي كان يقوم عليها السجن بتحويلها إلى حديقة للزهور. ولكن نظراً لأن الحكومات لا تحب الفراغ فإن "نابليون بونابرت"، عندما أصبح إمبراطوراً لفرنسا، أعلن عن عزمه على تحويل موقع الباستيل القديم إلى نصب تذكاري على هيئة قوس ضخم يحتفل فيه بانتصاراته العسكرية. ولكن سكان المنطقة المجاورة لم ترق لهم الفكرة، لما كانت ستسببه لهم من إزعاج، ورفضوا بالتالي خطة نابليون المزمعة، مما دفعه لبناء "قوس النصر" الشهير في الطرف الآخر من باريس، والاكتفاء ببناء نافورة على هيئة فيل ضخم للاحتفال بغزواته في موقع الباستيل. وفيما بعد تم تحويل ذلك الأثر المشيد من الجبس إلى آخر مصنوع من البرونز. وعندما وقعت معركة "واترلو" قرر التخلي عن كل تلك الخطط الباذخة، ومع الزمن تحول ذلك الأثر إلى مكان يعج بالفئران والنفايات، وظل الوضع على تلك الحال حتى عام 1846. وفي عام 1932 تمت إضافة تمثال آخر إلى تمثال الفيل البرونزي المتقشر، ليس للاحتفال بثورة 1789 هذه المرة وإنما للاحتفال بثورة 1830، التي أسقطت الملك "شارل الخامس" وأحلت محله الملك "لويس فيليب" الذي بنى عموداً ضخماً من البرونز، دفن عند قاعدته المرمرية أجسام من ماتوا من أجل الثورة، أما عند قمته فقد أقام تمثالًا مطليّاً بالذهب أطلق عليه اسم "جني الحرية" أو"روح الحرية" وهو على شكل تمثال مجنح يلف على أطراف قدميه حول نموذج للكرة الأرضية، متباهياً بتحطيم أغلال الاستعباد. ويرى بعض المؤرخين أن المعنى الرمزي لـ"روح الحرية" الذي أصبح يسمى اليوم "روح الباستيل" قد بهت عبر السنين، وإن ظل اليسار الفرنسي يحتفل بانتصاراته عند القاعدة المرمرية للنصب منذ احتفال الزعيم الاشتراكي "ليون بلام" عام 1936 بذلك أمام جمع حافل من أنصاره بمناسبة انتخابه رئيساً للوزراء، وهو يكور قبضته أمام الجمع بقوة دلالة على التحدي والعزم. وفي عام 1981 تدفق أنصار فرانسوا ميتران أيضاً على الباستيل احتفالاً بانتخابه كأول رئيس اشتراكي لفرنسا. ولذا فلاشك أن فرانسوا هولاند، وهو قارئ نهم للتاريخ، كان يدرك تحولات المعنى الرمزي للباستيل عبر الزمن، وهو يخاطب أنصاره نهاية الأسبوع احتفالًا بفوزه على ساركوزي، كما كان يدرك تحولات الأوضاع الآن مقارنة مع كانت عليه عامي 1936، و1981. ففي ذينك العامين بادر الزعيمان الاشتراكيان اللذان صعدا إلى سدة السلطة وسط أزمات اقتصادية خطيرة بتقديم وعود بأنهما سيحلان الأزمة، من خلال سياسات "كينزية" تقوم على رفع الأجور، وتخفيض ساعات العمل، وتدعيم المنافع الاقتصادية. وفي الحالتين طبقا سياسات اقتصادية كانت تختلف، بل كانت مضادة لتلك التي كانت مطبقة في البلدان المجاورة، وفي الحالتين تبين خلال عامين فحسب، فشل تلك السياسات، مما استلزم التخلي عنها بناء على ذلك. وعلى رغم أن هولاند لم يكور قبضته كما فعل "بلوم" أمام أنصاره، إلا أنه أشار بإصبعه في اتجاه برلين، وبروكسل، وكأنما كان يريد أن يقول إن سياسات التقشف لم تعد خياراً لفرنسا. ومثل سابقيه الاشتراكيين، وعد هولاند أيضاً بأن الاقتصاد الفرنسي سيكون أكثر إنتاجاً، وبأن الفرنسيين سيكونون أكثر رخاء، وهي وعود ستتطلب مفاوضات جادة مع ألمانيا حول السياسات المالية. فهل سينجح هولاند فيما فشل فيه بلوم وميتران؟ سؤال يتعين الانتظار لمعرفة الإجابة عنه. ففي زمن العولمة سيكون تنفيذ سياسة اشتراكية في دولة واحدة فقط أمراً أكثر صعوبة بكثير من عامي 1936، و1981. والأكثر صعوبة من ذلك، هو تجاهل مخاوف وآمال الشعب الفرنسي. وهولاند يعرف جيداً أيضاً أن التماثيل البرونزية يمكن أن تبنى، وتهدم، إلا أن ذكرى الحرية تدوم على مر التاريخ. -------- روبرت زاريتسكي أستاذ التاريخ الفرنسي بكلية أونارز - جامعة هسيوتن والمؤلف المشارك لكتاب: "فرنسا وإمبراطوريتها منذ 1870" ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "أم. سي. تي إنترناشيونال"