بفوز فرانسوا هولاند في الانتخابات الفرنسية ليوم الأحد الماضي واندحار الرئيس المنتهية ولايته، نيكولا ساركوزي، يكون قد دخل قصر الإليزيه أول رئيس اشتراكي منذ عام 1981. ومع أن صعود هولاند لم يكن مفاجئاً بالنظر إلى توقعات استطلاع الرأي، فإن الفارق المهم بين المتنافسين الرئيسيين البالغ، والبالغ 4 في المئة، يشير إلى مدى الاستياء الواسع الذي يكنه الفرنسيون لساركوزي ورغبتهم الأكيدة في عدم تجديد التفويض الرئاسي الممنوح له، ورفضهم رؤيته لفترة خمس سنوات أخرى رئيساً لفرنسا. واللافت أنه حتى اليمين المتطرف، والذي سعى ساركوزي إلى مغازلته طمعاً في أصواته، فضّل عدم التصويت له واستنكف عن دعمه. وفي الوقت نفسه عبّر الناخبون اليونانيون عن مشاعر مشابهة تقريباً لنظرائهم الفرنسيين بإدارة ظهورهم لائتلاف وسط اليمين ورفضهم تجديد ولايته، في خطوة احتجاجية لا تخطئها العين لحزمة التقشف القاسية التي أقرّتها الحكومة اليونانية نزولاً عند الشروط الأوروبية للحصول على مساعدات مالية من بروكسل، تلك المساعدات التي هي في أمس الحاجة إليها لتفادي الإفلاس والخروج من منطقة اليورو. والأمر نفسه، تقريباً، تكرر في الانتخابات المحلية البريطانية التي شهدت هي الأخرى هزيمة مدوية للائتلاف الحاكم بقيادة المحافظين والأحرار الديمقراطيين، لتبقى النقطة المضيئة التي خرج بها رئيس الوزراء، ديفيد كاميرون، احتفاظه بعمودية لندن التي نالها مرشح المحافظين، "بوريس جونسون"، متفوقاً على خصمه الاشتراكي، "كين ليفينجستون". وقبل ذلك بحوالي أسبوعين، رأينا كيف انهارت الحكومة الهولندية وحلت نفسها بسبب تداعيات التزامها بسياسة التقشف التي يتزعمها كل من ساركوزي والمستشارة الألمانية ميركل. فبعد فترة بذلت خلالها عدة محاولات، اضطرت الحكومة الهولندية في النهاية إلى حل نفسها بعدما فشلت في تمرير خطة التقشف داخل البرلمان. والسجال المحتدم حالياً في أوروبا يكاد ينحصر في السؤال حول ما إذا كانت الأولوية للتقشف، أم لتحفيز النمو كحل للمعضلة الاقتصادية الأوروبية والخروج من ربقة الديون التي تطوق أعناق البلدان الأوروبية! فهكذا يجادل منتقدو التقشف، ومن بينهم بعض الخبراء والاقتصاديين الأميركيين، بالقول إنه من غير خطط لتحفيز النمو وخفض معدلات البطالة المرتفعة، ستتفاقم مشكلة الديون أكثر فأكثر. هذا فيما يرى المنافحون عن التقشف وفي مقدمهم المستشارة ميركل، أنه ما لم تضبط الدول الأوروبية موازناتها وتلجم نفقاتها المتزايدة، لا سيما في بلدان مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال واليونان، فإن مستقبل اليورو سيكون الفشل، وما لم تخفض الحكومات الأوروبية من امتيازاتها العديدة للمواطنين، وتحد من المعاشات والإيجازات المجزية التي يتمتع بها مواطنو تلك الدول، فسترتفع أسعار الفائدة، وستفقد أوروبا قدرتها التنافسية إزاء دول مثل الصين والهند والبرازيل والولايات المتحدة. لكن صعود هولاند وزملائه في بقية أوروبا، قد يهدد "إجماع ميركل" القائم على الانضباط المالي والتقشف القاسي، مع ما لذلك من عواقب وخيمة على محاولات تطمين المستثمرين والتحكم في أسعار الفائدة. ومع ذلك، فإنه من الصعب وقف الانعطاف الأوروبي الواضح نحو اليسار وابتعاده عن التقشف. كما أن القضايا المعقدة، مثل سندات اليورو، وإعادة جدولة الديون، قد تثير اهتمام الدوائر المتخصصة والتكنوقراط. لكن ما يهم المواطن العادي في النهاية هو الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها، وأي سياسي يعده بتغيير ذلك سينال صوته. ولعل الاحتفالات التي قوبل بها فوز هولاند في فرنسا، وهو المرشح الذي لم يكن معروفاً لدى الفرنسيين، ولا كانت حظوظه وافرة قبل مشكلات "ستروس كان" وخروجه من الساحة، تدل تلك الاحتفالات على أن أي سياسي مهيأ للفوز في مثل هذه الظروف الاقتصادية، حتى هولاند المشكوك في خبرته وقدرته على مواجهة المشكلات المستعصية. ورغم التوقعات باستجابة سلبية للأسواق المالية لهذا الانعطاف الأوروبي، إلا أنه في النهاية، ومع مرور الوقت، لا بد من التوصل إلى اتفاق وتفاهم بين فرنسا وألمانيا يعتمد طريقاً وسطاً بين الاثنين. فمن جهة، سيكون على هولاند التراجع عن وعوده المبالغ فيها التي أطلقها خلال حملته الانتخابية، فيما ستسمح ألمانيا بنوع من المقاربة المتوازنة بين التقشف والنمو. والحقيقة أن تداعيات هذا الأمر تتجاوز أوروبا لتمتد إلى الولايات المتحدة وبقية القوى الاقتصادية في العالم. فلو غرقت أوروبا في مشكلاتها المالية، سيتعثر الاقتصاد الأميركي الذي لم يحقق سوى نمواً ضعيفاً، بل حتى الصين عليها القلق من استمرار الأزمة الأوروبية بسبب تباطؤ اقتصادها المعتمد بالأساس على الأسواق الأوروبية والأميركية. كما أن الركود أو الانكماش الاقتصادي في الولايات المتحدة وأوروبا والصين، سيعني تراجع الطلب على النفط وانخفاض أسعاره في الأسواق العالمية، الأمر الذي لا بد أن يؤثر سلباً على مستقبل النمو الاقتصادي في البلدان المصدرة للطاقة مثل روسيا وإيران ودول الخليج العربية. وبعبارة أخرى، تثبت الانتخابات الأوروبية وأهمية نتائجها على المستوى الدولي مدى تشابك الاقتصاد العالمي، بحيث بات من الصعب على الدول الصاعدة عزل نفسها وتحصين ذاتها من تقلبات الاقتصاد في أميركا وأوروبا، لكن الأخطر من ذلك ما كشفته الانتخابات الأوروبية الأخيرة من صعود تيار اليمين المتطرف في أوروبا، لا سيما بعد المكاسب التي حققها أقصى اليمين في كل من فرنسا واليونان، تلك المكاسب التي اعتمدت على شعارات القومية ومعاداة المهاجرين ومواضيع أخرى مشابهة تجد لها صدى لدى المواطنين في ظل الأزمة الاقتصادية. ولا أحد في أوروبا يستطيع أن ينسى الآثار السلبية للكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي ودوره في صعود النازية بأوروبا بعد انهيار الطبقة الوسطى في ألمانيا وإيطاليا. ومعروف أيضاً الترابط الوثيق بين التدهور الاقتصادي وتنامي المشاعر القومية. ولعلَّ التاريخ الأوروبي يعلمنا الكثير في هذا المجال، ويخبرنا بأنه عندما يتعلق الأمر بالخيار بين السلوك الاقتصادي العقلاني والتطرف القومي، فإنه غالباً ما ينتصر الأخير على حساب الأول؛ لذا يتعين على القائد الجديد لفرنسا التعاون والتنسيق مع نظرائه الأوروبيين لقطع الطريق على شرور الماضي ومنعها من الظهور مجدداً على الساحة بعد تصاعد أصوات اليمين المتطرف.