تحتاج النخبة المصرية في الوقت الراهن إلى الاتفاق على مبادئ جامعة مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي، لاسيما في ظل حالة الغرور والعناد والصلف التي تنتاب بعض المرشحين، فينتفخون بلا مبرر، ويتضخمون بلا داع. ابتداء من حق أي مرشح للرئاسة أن يتصرف على أنه الفارس الوحيد في السباق، وأن المنصب آتٍ إليه لا محالة، فمن لم يُقنع نفسه ليس بوسعه أن يقنع غيره، ويحتاج المتسابق الجاد في أي مجال إلى قدر هائل من الثقة بالنفس. ولكن المشكلة الحقيقية تقع حين ينزلق هذا الشعور إلى غرور قاتل أو أنانية مفرطة. ومن يتابع مرشحي الرئاسة حاليّاً، سواء على الشاشات الزرقاء، أو في السرادقات العامرة بالأنصار تستوقفه الفجوة الهائلة بين "الرغبة" و"القدرة" لدى بعضهم، وتغيظه تلك الشهوة العارمة إلى الكرسي الكبير، بغض النظر عن امتلاك ما يؤهل للوصول إليه واستحقاقه من عدمه، ولاسيما في هذه الفترة الزمنية العصيبة التي انزاح فيها الستار فجأة عن قبح شديد خبأه النظام السابق تحت مساحيق من الدجل والزيف والدعاية الرخيصة واليد الأمنية الباطشة. أعتقد أن أي مرشح يعرف المشكلات التي تمر بها البلاد سيزول عنه الزهو المصطنع واللهفة الواضحة على المنصب، وسيتحدث في تواضع وجدية ومسؤولية عما رآه حين سار في الأسواق، وتعامل مع دواوين الحكومة، وركب المواصلات العامة، وجلس على المقهى، وذهب إلى العمال في المصانع، والفلاحين في الحقول، والصيادين على ضفاف البحيرات. وأنصت إلى أصحاب الحرف في الورش، والمهندسين في مواقع البناء والتشييد، والأطباء والمرضى في المستشفيات الغارقة في الأنين والعوز، والتلاميذ في المدارس، والطلاب في الجامعات، والعلماء في المعامل، والخبراء في مراكز الأبحاث، والفنانين على المسارح، والأدباء رعاة الخيال، والدعاة في المساجد، والوعاظ في الكنائس. يذهب أغلب المرشحين إلى القرى والنجوع والدساكر ليحدثوا الجماهير عن الصراع على السلطة بين العسكر و"الإخوان"، والخلافات بين القوى السياسية حول الدستور، والمؤامرات الخارجية على الثورة، بينما الناس ينتظرون منهم أولًا أن يشعروهم بأنهم يعرفونهم جيداً وبعدها سيسمعون منهم أي شيء. وبعض المرشحين يشبه حالهم حال صديق لي خاض ذات يوم انتخابات إحدى النقابات، وجلس معي ليحدثني أن فوزه مضمون، فلما سألته عن سر ثقته، راح يعد لي الذين ابتسموا في وجهه حين رأوه، والذين شدوا على يده وقالوا له: بالتوفيق، والذين صفقوا له حين وقف بينهم خطيباً، والذين هاتفوه وقالوا له: أنت خيارنا. فابتسمت ولذت بالصمت وأنا أعرف ما سيجري، والنتيجة أنه رسب رسوباً مفزعاً، فراح يهذي. وهكذا تبدو لي طريقة توهم بعض مرشحي الرئاسة شعبيتهم الكاسحة، ومن ثم تعاليهم على غيرهم، واعتقادهم أنهم المخلصون. ولو أن هؤلاء تلفتوا حولهم جيداً لوجدوا عشرات الوجوه لشخصيات أفضل وأهم وأنسب منهم بكثير لهذا المنصب الرفيع لكنها تعففت وآثرت غيرها على نفسها، ولم تشأ أن تزاحم فتبعثر الأصوات وتشتت الهمم، أو أنها آمنت بأن كل هذا باطل في باطل. ولكن ما يحد من نتائج هذا الغرور، الذي قد يصل بأحد المغرورين إلى سدة الرئاسة فعلًا، هو أن يضع الرئيس المقبل، أيّاً كان اسمه واتجاهه السياسي، نصب عينيه هذه المبادئ العامة التي تمثل ما يدور من سجال، وما يطرح من أفكار، وما يلبي مطالب الجميع، وما يقيم دولة حرة مكتفية عادلة مستقلة: 1- الوطنية المصرية الخالصة هي الأرضية التي يجب أن تقف عليها القوى السياسية والاجتماعية كافة، وتنطلق منها في بناء أي رؤى أو تصورات للحاضر والمستقبل، أو السعي إلى بناء علاقات وطيدة مع الأمتين العربية والإسلامية والدائرة الإفريقية، وكذلك كل الأحرار في العالم بأسره ممن يتعاطفون مع قضايانا، أو يمدون يد المساعدة إلينا، ويحترمون تاريخنا ونضالنا من أجل الحرية والكفاية والكرامة. 2ـ الدستور هو القاعدة الراسخة التي تتأسس عليها القوانين والإجراءات والممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمس حياة المواطنين كافة، ومن ثم فإن وضع مواده يتم بالتوافق وليس برغبة الأغلبية السياسية أيّاً كان حجمها. 3ـ لا تراجع عن مدنية الحكم وقيام دولة القانون واحترام المواطنة، وتعزيز الوحدة الوطنية وضمان تداول السلطة واستقلال القضاء ماليّاً وإداريّاً وحرية تشكيل الأحزاب السياسية وإيجاد البيئة الاجتماعية الصحية التي تتيح تنافساً طبيعيّاً بين القوى السياسية وصيانة الحريات العامة في التفكير والتعبير والتدبير. 4ـ إن الثورة لن تكتمل إلا إذا حققت "تغييراً جذريّاً" في المجتمع المصري، وهذا لن يتم بغير الانتصار للعدالة الاجتماعية عبر اتخاذ القرارات والإجراءات الكفيلة بإنهاء التفاوت الطبقي والاستجابة لاحتياجات الفقراء، من منطلق أن تحقيق الكفاية واجب، وإنجاز الاستقلال المادي للفرد هو الذي يساعده على المشاركة السياسية الإيجابية والاختيار السليم، والتنمية المستقلة باتت ضرورة لا تفريط فيها ولا غنى عنها. 5- الثورة السياسية ليست نهاية المطاف وإنما هي بداية ثورة فكرية وعلمية وأخلاقية تبدو مصر بحاجة ماسة إليها في الوقت الراهن حتى تبني مشروعها الحضاري. ومن هنا يجب أن تحوز بلادنا نظاماً تعليميّاً يشجع على النقد والإبداع، وأن تحظى بخطاب ديني عصري يتفاعل مع مشكلات الواقع ويحض على الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والنفع العام، وتشرع في بناء مسار حقيقي للبحث العلمي في الإنسانيات والطبيعيات على حد سواء. 6- إن الوقت قد حان لتنهمك القوى الاجتماعية كافة في بناء المؤسسات الوسيطة، مثل النقابات المهنية والعمالية واتحادات الفلاحين وهيئات المجتمع الأهلي والمدني فهذه الأبنية الاجتماعية هي التي تصون النظام الديمقراطي العادل. 7ـ يجب أن تناضل النخبة المصرية جميعاً، سواء من ترشح أو من تعفف، من أجل تحقيق هذه الأهداف.