حاولت في المقال الماضي، "رؤية استراتيجية لمستقبل مصر"، أن أتجاوز الحاضر بما يسوده من مشهد سياسي مرتبك زاخر بالصراعات العقيمة بين تيارات سياسية متعارضة أشد التعارض. مشهد تكال فيه الاتهامات بالحق أو بالباطل للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير بصفة مؤقتة المرحلة الانتقالية التي ستنتهي حتماً يوم 30 يونيو المقبل، ومشهد يشتد فيه الصراع الحاد والعنيف بين القوى الليبرالية واليسارية، وتيارات الإسلام السياسي ممثلة في "الإخوان المسلمين" و"حزب النور" السلفي. لقد حاولت جماعة "الإخوان المسلمين" أن تهيمن على مجمل المؤسسات السياسية في البلاد، وفقاً لخطة مدروسة تسعى في النهاية - وفقاً لتصريحات المرشد العام وقادتها - إلى تحقيق الحلم القديم للجماعة، وهو إقامة الخلافة الإسلامية، وبعبارة أخرى، تأسيس دولة دينية خالصة على أنقاض الدولة المدنية الراهنة التي تبعثرت قواها وتشتتت مؤسساتها بعد ثورة 25 يناير. هذا هو المشهد الكئيب الذي حاولت مغادرته للحديث عن المستقبل بمناقشة برامج المرشحين للرئاسة، وبدأت بمناقشة برنامج "عمرو موسى"، فظن بعض القراء وهماً أنني أقوم بالدعاية له، مع أن هدفي كان التحليل النقدي لبرامج المرشحين عموماً لرفع الوعي العام بأهمية مناقشتها، حتى يختار المواطنون على أساس الأفكار التي يعتنقها كل منهم، وليس على أساس سماتهم الشخصية وتواريخهم السياسية. غير أن الأحداث الدامية التي دارت في ميدان العباسية ردتني بعنف شديد من الحديث عن المستقبل لكي أحلل الأحداث الراهنة مرة أخرى، للكشف عن أسبابها الحقيقة وأهدافها المعلنة أو الضمنية. وحين راجعت مقالاتي في العام الماضي والتي لم تتوقف كل خميس منذ نشوب ثورة 25 يناير حتى الآن، اكتشفت أنني استشعرت مبكراً حجم المخاطر الكامنة في مسيرة المرحلة الانتقالية من السلطوية إلى الديمقراطية، وكتبت سلسلة مقالات كانت مواجهة نقدية مباشرة مع الأطراف السياسية المتعددة والمسؤولة عن الأزمة. في 24 نوفمبر 2011، نشرت مقالة بعنوان "انتهازية النخب وغوغائية الشارع"، وهي تصلح تفسيراً لأحداث العباسية الدامية؛ وذلك لأن فريقاً من النخبة السياسية يمثل التيار السلفي بقيادة "حازم أبو إسماعيل"، أشعل تمرداً جماهيرياً واسعاً بعد استبعاده من الانتخابات الرئاسية. وتمثل هذا التمرد أولاً في محاصرة مبنى اللجنة العليا للرئاسة، وهي تنتظر قضية المرشح المستبعد مما مثل إرهاباً مادياً ومعنوياً للقضاة أعضاء اللجنة. وكان ينبغي على السلطات المسؤولة فض هذا الاعتصام بالقوة، تحقيقاً لمبدأ استقلال القضاء، وعدم خضوعه لغوغائية الشارع. وبعد صدور الحكم النهائي بالاستبعاد، دعا "أبو إسماعيل" أنصاره للاعتصام في ميدان التحرير، فرفعوا شعارات غير معقولة، أهمها طلب حل اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، وتعديل المادة 28 التي تحصن قرارات اللجنة! ومعنى ذلك الرجوع إلى المربع صفر، وإلغاء كل المراحل التي قطعتها في سبيل تنظيم انتخابات الرئاسة. ولو قبلت هذه المطالب العشوائية لأدى ذلك إلى إطالة الفترة الانتقالية التي تصرخ كل التيارات السياسية بضرورة إنهائها في الموعد المحدد، وهو 30 يونيو. غير أن التمرد الجماهيري السلفي لم يقنع بالاعتصام في ميدان التحرير، لكنه انتقل من خلال مظاهرات حاشدة إلى العباسية، حيث مقر وزارة الدفاع. وتدعي بعض الأطراف كذباً أنه كان اعتصاماً سلمياً، وتتشدق جماعة "الإخوان المسلمين"، بل وبعض المرشحين للرئاسة، بأن الاعتصام السلمي حتى لو كان فوضوياً وحتى لو كان منظماً لاقتحام وزارة الدفاع، ينبغي عدم فضه بالقوة! بل إن بعض تصريحات ممثلي النخبة السياسية على اختلاف ألوانها تمادت وقررت أن على السلطات حماية المعتصمين حتى لو كان هدفهم اقتحام مؤسسات الدولة! ما هذه الغوغائية السياسية؟ وهل هناك في أي دولة ديمقراطية مظاهرات حاشدة تقطع الطرق، وتمنع المواطنين من مزاولة أعمالهم، وتسعى لاقتحام مؤسسات الدولة، وتترك هكذا باسم الديمقراطية بلا أي محاولة لمنعها أو لقمعها حتى باستخدام القوة؟ ومن قال إن المظاهرات والاعتصامات حقوق مقدسة لا يجوز المساس بها حتى ولو أدى ذلك إلى المساس بمصالح الجماهير العريضة وتهديد الأمن والاستقرار السياسي؟ وقد حذرنا قبل ذلك من تحول الثورة السلمية على يد جماعات سياسية شتى دينية وحتى ائتلافات ثورية إلى عنف فوضوي، نتيجة استغلال النوازع الغوغائية التي تصاحب أي حشود جماهيرية كبرى؛ لأن هذه الحشود حين يتعدى عددها عشرات الآلاف لا يمكن السيطرة على حركتها حتى من قبل الحركات التي نظمتها. ويصبح اللجوء إلى العنف احتمالاً كبيراً نتيجة تعمد هذه الحشود الاصطدام بقوات الأمن. حدث هذا في أحداث "ماسبيرو" وشارع "محمد محمود" وأمام "مجلس الوزراء"، حيث اختلط الثوار مع البلطجية مع أطفال الشوارع، مما أدى إلى أحداث عنف دامية لا نعرف فيها من القاتل ومن المقتول! وسبق أن ركزنا قراءتنا للمشهد السياسي في مقال بعنوان "قراءة تحليلية لخريطة المجتمع المصري"، أبرزنا فيها ملامح المجتمع المصري بعد الثورة. وقررنا - للتذكرة - أن أول ملمح هو انزواء دور المثقف التقليدي وصعود دور الناشط السياسي. وهذا الناشط السياسي ليس بالضرورة مثقفاً، لكن لديه القدرة الفعالة على تحريك الشارع وإثارة الجماهير وقيادة الحشود الجماهيرية ورفع الشعارات الزاعقة، والمناداة بمطالب يستحيل تحقيقها في الأجل القصير. أما الملمح الثاني، فهو ظهور الحشود الجماهيرية التي لا يمكن السيطرة على حركتها، والتي تنزع عادة للعنف، ومن الصعب التمييز في صفوفها بين الثوريين الحقيقيين والثوريين المزيفين ممن احترفوا تهييج الشارع، بالإضافة إلى البلطجية المحترفين. وتبقى أخطر مشكلة وهي صراع الشرعيات السياسية بين شرعية الميدان، ويقصد بها الشرعية الثورية، وشرعية البرلمان ويقصد بها الشرعية الدستورية. وفي ضوء هذا الصراع، رفضت الائتلافات الثورية نتائج الانتخابات التي استبعدوا فيها لشرعية البرلمان، ورفعوا شعار أن شرعية الميدان هي الأساس، وأنها ستبقى إلى الأبد. وفي الوقت نفسه، أعلنت جماعة "الإخوان المسلمين" أنها ترفض "شرعية الميدان" على أساس أنه ليس هناك سوى شرعية واحدة هي شرعية البرلمان. غير أن الجماعة، كعادتها، عدلت من موقفها في إطار صراع مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ونزلت بمظاهرات حاشدة إلى ميدان التحرير على أساس شرعية الميدان. ما هذه التناقضات المتطرفة التي تشير إلى تعمق الانتهازية السياسية في مسلك "الإخوان المسلمين"؟ ويبقى السؤال الرئيسي ونحن على بعد أسابيع قليلة من إجراء الانتخابات الرئاسية والتي ستعجل بتسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة للسلطة إلى المدنيين كما هو المطلب السياسي العام، من الذي من مصلحته تعويق المسيرة ونسف مسار الانتخابات والنزول إلى الشوارع في محاولة يائسة، ليس للاعتراض السياسي فقط ولكن لهدم الدولة ذاتها؟ المسؤولية بكل قطع تقع على الأطراف السياسية كافة من أحزاب تقليدية وأحزاب سياسية جديدة وائتلافات ثورية وتيارات دينية.