عندما عبَر محمد باقر الحكيم (اغتيل 2003) إلى الجرف العراقي، حاول نفض الغبار الإيراني مِن على عباءته. فأخذ يتحدث عن دولة مدنية، وتوجه إلى النَّجف معلناً التصدي للمرجعية، فهو ليس أقل من مرشد الثَّورة الإيرانية خامنئي أعلميةً. كان والده محسن الحكيم (ت 1970) مرجع تقليد أوحد للشيعة، لكن من دون قولٍ بولاية الفقيه. إنما في أقصى الأحوال كان يقول بالولاية الوسطى (الصغير، أساطين المرجعية). وفي لقاء جمع بين محسن الحكيم والخميني (ت 1989) بالنجف (أكتوبر 1965)، طلب الأخير من الحكيم التدخل لتثوير إيران ضد الشاه (ت 1980). استشهد المرجعان بأسلوب الإمام الحسين (قتل 61 هـ) وهو الثورة وبأسلوب الإمام الحسن (ت 50 هـ) وهو السلم. قال الخميني: "ألم تُقدم ثورة الحسين بن علي خدمة مؤثرة للتاريخ؟"، فرد الحكيم: "وماذا تقولون عن الإمام الحسن، إنه لم ينهض!". عندها احتج الخميني بأن الحسن لم يجد الأنصار فترك النهوض بالثورة! أجاب الحكيم: "وأنا لا أرى مَن يطيعني" (وثيقة 15 من أرشيف الأكاديمي اللبناني سعود المولى، حصل عليها في زيارة لقم الإيرانية برفقة الشيخ شمس الدين، صيف 1999. نفعني بنسخة منها ببيروت)! لخصت تلك الوثيقة رأي الحكيم في العمل الحزبي الثوري آنذاك، أو القيام بعمل ما ضد السلطة، خارج الاحتجاج أو النصيحة. كان الحكيم الأب مرجعاً للشيعة في أكثر من بلد، وفي العراق على وجه الخصوص، والأخذ بمشورة الخميني يعني دفعه إلى ما يخالف رأيه الفقهي، وما قد يؤثر على مرجعيته. لهذا لو عاش الحكيم إلى زمن الثورة الإيرانية وانتصر نموذجها بالعراق لا يستبعد أنه سيُعامل المعاملة التي عُومل بها المرجع محمد كاظم شريعتمداري (ت 1985)، ومرجع الأهواز محمد طاهر الخاقاني (ت 1985)، والمرجع أبو القاسم الخوئي (ت 1992). فبعد نجاح الثَّورة الإيرانية كان الثوار الإسلاميون يتقصدون شريعتمداري والخوئي (ت 1992) بمشاهد مسيئة في الطرقات، أعف عن ذِكرها. أراد باقر الحكيم بالحديث عن نظام عراقي مختلف إظهار ما يميزه عن النموذج الإيراني. وها هي الشكوك تحوم حول مقتله، فالمتفجرات وضعت داخل سيارته، أي لم يكن التفجير بسيارة عن بُعد بأيدٍ غريبة، فالظاهر أنه تم الترتيب مِن مؤتمن في الحماية. كان الحكيم وهو داخل إيران تحت الهيمنة الإيرانية المباشرة، وهو أمر معتاد في سياسات الدول مع المعارضات، سواء كانت طهران مع الإسلاميين أو موسكو مع الشيوعيين أو القاهرة مع القوميين، لكن النظام العراقي سقط بلا منة إيرانية، وعاد الحكيم إلى أرض العراق، والنجف هي أم الحوزات الدينية، فلماذا الامتثال لتلك الهيمنة، وهو لم يعد معارضةً تطلب نوالاً! لنا اعتبار أن قتل الحكيم أزال عقبة أمام الجانب الإيراني من السعي إلى السيطرة على القوى الحزبية الدينية بالعراق، والسير في ركابه، وهنا لا نعني الشَّعب ولا مراجع الدين، إنما السلطة وعقيدتها "ولاية الفقيه". لا يغرب عن البال أنه بعد نجاح الثورة الإيرانية (فبراير 1979)، ووجود الخميني بالنجف، ثم تبدلت الأحوال وأُخرج عنوةً، كان يتطلع إلى ثورة إسلامية بالعراق، وهذا يفسر الرسالة التي أُذيعت من طهران إلى محمد باقر الصدر (إعدام 1980)، تنصحه بالبقاء لقيادة العمل الإسلامي، وأشارت إليه بحجة الإسلام لا بآية الله، وربَّما لهذه المخاطبة مغزىً في نفس مرسل البرقية، مثل أن القائد والأَعلم هو الخميني، سواء كانت الثورة بإيران أم بالعراق، بينما تظاهرات داخل طهران أخذت تهتف بحياة الصَّدر، وكلُّ هذا عجل في إعدامه. كان الخميني على صلة بسلطة "البعث" حتى أنه رفض التدخل لإنقاذ من حكم بالإعدام من أقطاب "حزب الدعوة"، مثل عارف البصري ورفاقه (1974)، بل يُنقل أنه قال: "أنا لا أُدافع عن الجواسيس" (آمالي السيد طالب الرفاعي). فقبل الاتفاقية بين بغداد وطهران (مارس 1975) ضد الثورة الكردية، كانت الصِّلات متوترة بين البلدين، فيجري اللعب عادة في معارضتهما! لتسريع الثَّورة الإسلامية بالعراق، وبالتالي التوحد تحت راية الإسلام السياسي، كانت قيادة الثورة الإيرانية تلهب الأجواء بين البلدين، ذلك ما حذر منه شريعتمداري. قال الرِّفاعي: "أخبرني شريعتمداري: سيدنا أغا رفاعي حكومتنا هذه ستجرنا إلى حرب مع جارتنا الإسلامية العزيزة العراق... وهذا شيء ليس من صالح الجمهورية الإسلامية". عَقب الرفاعي قائلاً: "لم يبرز ذلك في الإعلام على الإطلاق، بل حدثني به تماماً قبل الحرب" (نفسه). أي في صيف 1979، والحرب نشبت في سبتمبر 1980. لكن ذلك لا ينفي مسؤولية النظام العراقي عن ردة فعله العنيفة ضد الثورة الإيرانية، ونشوب الحرب، والقيام بحملات تهجير ظالمة طالت حتى النساء والأطفال. لقد مرت على العراق دعوات إلى وحدات باسم القومية (1959 و1963) فتركته عظماً بلا لحم، وعملت شرخاً في وحدته الوطنية، فما للكرد والوحدة العربية؟ وها هي إيران تحاول تجريبها معه باسم المذهب، ومال بقية مذاهبه وهذه الدعوة؟ ألم تُطلق تلك الدعوة حطباً لأتون الطائفية المستعر، وتفريج كربة عن طهران؟! فالوحدة لصالح إيران وهي تواجه العالم، وليست لصالح العراق ليتحمل أزمات غيره وهو مازال مأزوماً. إن التصريح الإيراني في "اتحاد البلدين بشكل تام لتشكيل قوة كبيرة على الصعيد العالمي"، الذي جاء على لسان رحيمي، خلال استقبال نوري المالكي بطهران (24 أبريل 2012)، كان حلماً فهوى في ما مضى، ليبعث مِن جديد، فالفرصة سانحة الآن. ليست الدَّعوة مفاجأة لمن يقرأ الحوادث، بل كانت كامنة في ضمير الثَّورة الإسلامية منذ انتصارها، وهي في ظروف العِراق الحالية دعوة ضمِّ لا وحدة! على القوى الإسلامية العراقية الإسراع بالتَّحول إلى قوى وطنية، تنفض مِن على عباءاتها غبار المعارضة وموجباتها. والشيء بالشيء يُذكر، بعد أن قضى الشيخ نجيب الدِّين العاملي (ت 1640) عمره بإيران الصَّفوية عاد إلى بلاده قائلاً: "ضاعت الأوقات في أرض العجم، فتدارك بعضها قبل النَّدم" (مروة، التَّشيع بين جبل عامل وإيران). معاذ الله أن نقصد العجم البلاد والشَّعب، فهي أجمل البلدان وأرقى الشُّعوب، لكن إيديولوجية الدولة لها تطلعاتها، والعراق في حلٍّ من أن يكون سهماً في كِنانتها.