مر اليوم العالمي للصحافة هذا العام هادئاً وحافلاً بالأمنيات والندوات التي تتحدث عن الإعلام وحريته ومستقبله. سكتت أخبار القتلى والجرحى والأسرى من الزملاء الإعلاميين -في هذه الأيام على الأقل- بعد سنوات سوداء عاشتها منطقتنا العربية تحديداً. حدثان صادف وقوعهما هذا الأسبوع ونحن نكمل احتفالاتنا بيوم الصحافة، يضيفان بعداً جديداً في مفهوم الحرية الصحفية، أو إضافة رصيد جديد لتجربة الإعلام الناطق باللغة العربية. الأول: خبر نشرته معظم وسائل الإعلام الدولية يقول إن وكالة الأنباء العالمية العريقة "الأسوشيتد برس" تعتذر لأحد مراسليها بعد 67 سنة لأنها طردته لتسريبه خبراً عن "استسلام الألمان" قبل أذن الحلفاء. وكما تقول التفاصيل، فإن ذلك الخبر الذي طرد بسببه يرجّح أن يكون السبق الصحفي الأبرز في تاريخ الوكالة. الصحفي إدوارد كينيدي كان في ميدان المعركة مراسلاً حربياً، عندما سمع أهم خبر ينتظره العالم، تأكد من المعلومة ولم يطق صبراً، أرسله بسرعة وبثته هي بدورها كخبر عاجل. الخبر كان صحيحاً، لكن مشكلته الوحيدة أن كينيدي تحدى الرقابة العسكرية لنشر القصة. فرئيس الوزراء البريطاني تشرشل والرئيس الأميركي ترومان كانا قد اتفقا على طمس أخبار الاستسلام يوماً إضافياً، بغرض السماح للديكتاتور الروسي ستالين بتنظيم احتفال ثان في برلين. عاد الصحفي من الميدان لينال توبيخاً علنياً من الوكالة -بدل تكريمه- وطرد لاحقاً وبشكل صامت، كما جاء في الخبر. رئيس الوكالة طوم كورلي قدم اعتذاراً علنياً إلى كينيدي على الطريقة التي عومل بها، فيقول: "كان يوماً رهيباً بالنسبة للأسوشيتد برس. تعاملنا مع القضية بأسوأ طريقة ممكنة. قام كينيدي بكل شيء على نحو صحيح"، رافضاً الفكرة القائلة إن واجب الوكالة احترام "أمر" إبقاء الخبر سرياً حتى رفع الحظر عنه لأسباب سياسية، "عندما تنتهي الحرب، لا يمكنك إخفاء معلومات كهذه. كان العالم في حاجة إلى أن يعرف". هكذا ختم اعتذار الوكالة لكينيدي. طبعاً ذلك الاعتذار لن يصل إلى كينيدي لأنه ببساطة قد مات في بدايات الستينيات، لكن كما قالت ابنته فإن "السعادة تغمرها" جراء الاعتذار، مشيرةً إلى أن والدها "لطالما سعى إلى الحصول على تبرئة من الوكالة". لكن من يعرف هذا المراسل في هذا العصر، أو من يتذكر تلك الحادثة، أو من يهتم بمثل هذا الاعتذار الذي في ظاهره أنه موجه إلى شخص المحرر؟ تصرف الصحفي وقرار الوكالة ينبغي أن يُدرّسان كحالة عملية في كليات الإعلام، أيهما القرار الصحيح مهنياً؟ كما يعلّمنا ذلك الخبر أن حرية الصحافة التي نتحدث عنها ونطالب بها خاصة في العالم النامي لها قيود حتى في الدول المتقدمة التي ترفع شعار حماية الحريات، لكن الجميل عند هذه الوكالة الإعلامية هو التصرف الحضاري الذي بدر منها، ولغة الاعتذار لأحد صحفييها حتى ولو بعد ما يزيد على نصف قرن من الزمن على وقوع الحادثة. هذا هو الدرس الذي يجدر بنا أن نتعلمه منهم، أن نقر بالخطأ ونملك شجاعة الاعتذار ولو متأخرين. الحدث الثاني المهم خلال هذا الأسبوع هو انطلاق قناة "سكاي نيوز العربية" وسط سماء مشحونة تتنافس فيه أقمار وفضائيات شتى بمختلف اللغات والهويّات. وما يحدث في فضائنا اليوم يذكرنا بلعبة قديمة يكررها الزمن، عندما كانت الدول العظمى تسعى إلى إستراتيجية الإذاعات الموجهة والناطقة باللغة العربية أو "سياسة الغزو الثقافي"، كما سماها البعض، وتنافسها في الوصول إلى العالم العربي، وهي المنافسة التي اشتدت في أربعينيات القرن الماضي. هذه المرة يعود "الغزو"، لكنه لا يلبس غطاء هوية ثقافية فقط، وليس عبر صوت المذياع وإنما من خلال صورة وألوان وحرفية القنوات الفضائية الدولية المعرّبة وأهداف شتى. فلم تعد الـ "بي بي سي" الإذاعة العريقة والقناة العربية الحديثة، الصوت الوحيد الذي يحتكرنا، دخلت تنافسها القنوات الفرنسية والأميركية والألمانية والروسية والتركية والصينية والكورية... جميعها تتحدث بلسان عربي فصيح. المميز بالنسبة لسكاي نيوز العربية أنها تنطلق من أبوظبي، والرهان عليها كبير في مدى تمتعها بالحرية والمصداقية والحياد... مع أن مصطلح الحيادية لا وجود له في عالم الإعلام، كما يقول الأساتذة والخبراء، لكن على الأقل محاولة تحري الشفافية والوضوح والصدق في النقل، وترك الأطراف المتنازعة تطرح وجهات نظرها بلغة محترمة ومنطقية من خلال الاعتناء باختيار الأشخاص الذين تقدمهم، وهو ما تغيّبه معظم غابة الفضائيات العربية المصطنعة لتحقيق أهداف والموجهة لحمل رسائل معينة، والتي تقف خلف ستارها أحزاب أو دول امتهنت صنع الحرائق والفتن. من المبكر جداً أن نحكم على سكاي نيوز العربية اليوم، المحك هو في التعامل اليومي المباشر والتعامل مع الأحداث الشائكة، وتحديداً واقع المستجدات العربية، وأين ستقف منها... فذلك هو الذي سيثبت مهنيتها. لكن الذي عكسته في انطلاقتها هو مدى الحرفية في صناعة الإعلام، والاهتمام بأدق التفاصيل، وحجم استعدادها المبكر لبدء الرحلة اليومية الشاقة... هذه الضوابط هي التي تعني المهنية العالية وعلامة الجودة. أيضاً بقدر تركيزها على البث التقليدي للقناة المشاهدة، بدأت قوية وأكثر فاعلية في تواصلها وتقنيتها في وسائل الإعلام الجديد. الجهد الذي تقوم به يتفوق على أدوار مؤسسات إعلامية عريقة في هذا المجال، بل تحاول سحب البساط من تحتها. الأمر المميز كذلك هو بدايتها القوية بوجوه إعلامية مواطنة، استقطبتهم وأعطتهم فرصة أن ينطلقوا معها. وهذا ما لم تقم به أغلب القنوات التي تستقر وتبث من الإمارات. وبدأ أن هؤلاء الإعلاميين المواطنين أكثر ثقة ومهارة ولباقة في إطلالتهم عبر هذه القناة الدولية الجديدة. النقطة الأهم وهي أن سكاي نيوز يجب أن لا ينتظر منها الجميع أن تُعنى بنقل الحدث الذي يقع في الدولة وتهتم بالنشاطات والفعاليات اليومية فيها، بحكم أنها متواجدة في أبوظبي وفي شراكة إعلامية واستثمارية مع رأس مال وطني، إنها ليست قناة محلية. لكن كيف يمكنها أن تقدم الحدث الإماراتي البارز للعالم من خلال احترافيتها؟ هذا هو السؤال المهم الذي سنبحث عن إجابته خلال متابعتنا لها خلال الفترة المقبلة.