الانتخابات الرئاسية الفرنسية، التي انتهت بانتصار ضيق للاشتراكي فرانسوا هولاند على ساركوزي، تم خوضها عموماً على نحو شخصي. فرغم ما عرفته الحملة الانتخابية من خطابات، وما قد يبدو اختلافاً وتباعداً حاداً بشأن طريق التقشف الأوروبي، فإن الاختلافات الإيديولوجية بين هذين المرشحين اللذين يميلان إلى الوسط ترقى إلى بضع درجات فقط. وربما تكون الرغبة العامة في التغيير أحد المفاتيح التي تساعد على فهم ما حدث: ذلك أن الطريقة الوحيدة لإحداث تغيير النظام في فرنسا في عصرنا الحديث هي إحداثه على القمة، من خلال الانتخابات الرئاسية. وربما حان الوقت لـ"التناوب": فالاشتراكيون لم يصلوا إلى سدة الحكم منذ 1995. وقد كان من الصعب على الأميركيين فهم "انعدام الحب" الشديد الذي تطور بين الجمهور الفرنسي وساركوزي منذ اليوم الأول لرئاسته تقريباً. وكان الراحل رايموند آرون، المفكر الاستراتيجي الفرنسي البارز لمرحلة ما بعد الحرب، قد وصف فرنسا ذات يوم بأنها "بلد محافظ يحلم بالثورة". فأن يحتفل ساركوزي بفوزه ليلة انتصاره في الانتخابات في 2007 بأحد مطاعم باريس الفخمة برفقة أصدقائه الأغنياء ثم يقيم في يخت يملكه مليونير فرنسي، أمور تركت طعماً سيئاً دائماً لدى الشعب الفرنسي (وهو أمر يُظهر الجانب الثوري في العقلية الفرنسية). وعندما شتم ساركوزي، في بداية ولايته، أحد المتفرجين في معرض زراعي لأنه رفض مصافحته، شكل ذلك خرقاً لقانون الكرامة في "الملكية الجمهورية" الفرنسية. يضاف إلى ذلك أسلوبه المهتاج وتلويحه باليد وعادة تقريعه حتى لأقرب معاونيه، وكلها أمور جعلته يبدو بأنه ليس في مستوى صورة المكتب الرئاسي الفرنسي. وبالمقابل، يقف "هولاند"، الذي يبدو لطيفاً ورقيقاً كمدير بنك إقليمي ويحمل لقب "السيد اللين" لنعومة أسلوبه وما يقال من أنه "لا يحسم في الأمور"، مثلما وصفته رفيقته السابقة "سيجولين رويال"، أم أبنائه الأربعة. غير أنه في المناظرة الرئاسية الشرسة للسابع والعشرين من أبريل، أثبت هولاند أنه أي شيء إلا "السيد اللين"؛ فقد كان شرساً وهجومياً لدرجة أنه ذهب بعيداً في مقاطعاته المتكررة لساركوزي، وانتهت المناظرة رسمياً بالتعادل؛ ولكن في رأي المتفرج، بدا أن هولاند هو المنتصر. إن حقيقة أن ساركوزي وقف أمام الكونجرس الأميركي وقال: "إنني أريد أن أكون صديقكم"، وأنه أعاد فرنسا إلى القيادة الموحدة لـ"الناتو"، منحه قبولاً بين الطبقة السياسية الأميركية. ولكن ذلك حدث بعد عقود من التحفظ والارتياب (تخللتها لحظات تضامن، بدون شك) بين "أقدم حليفين"، من ثأر ديجول لرفض روزفيلت له خلال الحرب العالمية الثانية، إلى تحفظ ميتران بشأن الرأسمالية الأميركية، إلى اعتراض شيراك على حرب بوش الإبن الوقائية ضد عراق صدام. ولكن، هل سينتهي "عهد الشعور الجيد" هذا بين فرنسا والولايات المتحدة الآن؟ كلا. فـ"فرانسوا هولاند" يساري وسطي، وديمقراطي اجتماعي - وليس ماركسياً. وأعتقد أن" هولاند"، وهو خريج مدارس النخبة الفرنسية (التي لم يتخرج منها ساركوزي، الذي تدرب كمحام)، لديه قدرة رهيبة على التأقلم والتوصل إلى التوافقات. والواقع أن اللحظة الراهنة تشبه نوعاً ما لحظة وصول آخر رئيس اشتراكي، ميتران، إلى السلطة في 1981. في بداية رئاسته، أراد ميتران طمأنة الولايات المتحدة، فأرسل مبعوثين إلى واشنطن للقيام بذلك تحديداً. غير أنه في الوقت نفسه، يمكننا أن نتوقع بعض تغيير الاتجاه من جانب نظام هولاند الجديد تجاه القيم الفرنسية التقليدية – وبخاصة تجاه نوع من عدم الثقة تجاه "الليبرالية" (التي تعني في القاموس الأوروبي رأسمالية بدون قيود). وبخصوص السياسة الخارجية، يمكننا أن نتوقع تغييرات صغيرة: انسحاب من أفغانستان قبل عام على الموعد الذي كان محدداً سلفاً (في نهاية هذا العام بدلاً من نهاية 2013) ولكن ليس الكثير عدا ذلك. وبخصوص إسرائيل، كان ساركوزي قد قطع مع العادة الديجولية القديمة، فوطد العلاقات معها. وتاريخياً، يعد الحزب الاشتراكي صديقاً لإسرائيل، وإن كانت قلة قليلة في فرنسا (وفي أماكن أخرى من أوروبا أيضاً) تستطيع تأييد الخطاب المتصلب لنتنياهو وإيهود باراك. والواقع أن مشكلة هولاند الفورية لن تكون مع الولايات المتحدة وإنما مع ألمانيا – وجهته الخارجية الأولى كرئيس. ذلك أنه وعد بإعادة التفاوض حول اتفاقية للاتحاد الأوروبي تنص على الحد من العجز والمديونية. ويرغب في ضخ مزيد من النمو في الميثاق، ولكن النتيجة المرجحة ستكون ملحقاً منفصلاً من التدابير (التي لا يعرف أحد فعاليتها)، بدلاً من تغيير في الميثاق نفسه (وهو أمر تعارضه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بشدة). والحقيقة أنه على الرغم من أن ميركل وساركوزي كانا يعملان جيداً معاً، إلا أن عدم التوافق بين الرئيس الفرنسي فائق النشاط والحركة والمستشارة الألمانية "الباردة" كان دائماً موجوداً. ومن سوء حظ هولاند، فإنه سيرغم على اتباع الوقائع الاقتصادية والمالية الصارمة التي تفرضها الأسواق، ما يذكر شيئاً ما بالتغيير المفاجئ الذي قام به ميتران قبل 30 عاماً تقريباً، حين أُرغم بعد فترة أولى من الإنفاق العام وعمليات التأميم على العودة إلى سياسة "الصرامة" المالية. في الخطاب الذي قبل فيه نتيجة الانتخابات، طلب ساركوزي من أنصاره "احترام" الرئيس الجديد، ثم تمنى له حظاً سعيداً "مع التحديات"، وما أكثرها. وقد وجد الفرنسيون في هولاند رئيساً ألطف، وأنبل من المستبعد أن يرسم مساراً جديداً دراماتيكياً. غير أنه من غير المعروف ما إن كان ذلك سيجعل التحديات أكثر قابلية للتحمل بالنسبة للشعب الفرنسي– أو رئيسه الجديد. ---------- تشارلز كوجان زميل مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"