تمثل مسألة الدولة والمجتمع المدني واحدة من كبريات المعضلات في سوريا، وتعود جذورها إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، وبالمناسبة، كانت سوريا أول بلد يستقل عن الاستعمار (الفرنسي)، وكان ذلك عام 1948. وقد بدأت القوى السورية الاستقلالية بمشروع سياسي ثقافي وطني، شاركت فيه جموع واسعة من كل الطبقات والفئات الاجتماعية، جنباً إلى جنب مع طلائع المؤسسات المدنية من نقابات مهنية عمالية وفلاحية وحِرفية وتعليمية وغيرها. ومن ضمن ذلك برزت الطبقة الوسطى على نحو خاص، ظهر لاحقاً أنها كانت ذات تأثير استثنائي باتجاه مجموعة من القيم المحفّزة على النشاط السياسي والثقافي التنويري، فكان ذلك مِدماكاً في عملية التأسيس للمشروع المذكور. وقد أسهم ذلك في ترسيخ الاستقلال الوطني والوحدة الوطنية، التي انعكست بكيفية بنّاءة في ترسيخ النسيج الوطني ضمن الأديان والطوائف الدينية والأطراف الإثنية والقومية وغيرها، وذلك عبر نشاط واسع ومكثّف شارك فيه الجميع بنسب عالية. في سياق ذلك، كانت ملامح دولة وطنية تُفصح عن نفسها بمثابتها امتداداً للقوى الوطنية المختلفة من كل الاتجاهات، والتي قامت هي بإنجاز الاستقلال الوطني. وولد في هذا الجو العمومي جيش سوري وطني، حدّد مهمات الدفاع عن الاستقلال العتيد والمحافظة على سوريا حُرة مستقلة، بمثابتها مهماته الكبرى. ولما كان المجتمع السوري ذا حراك سياسي وثقافي ملحوظ، فقد تمكنت القوى الجديدة من اقتحام الحقل السياسي الحزبي، فتشكلت شيئاً فشيئاً حياة حزبية تطال التيارات السياسية والإيديولوجية والثقافية، التي راحت تمتد من أقصى الجمهورية الوليدة إلى أقصاها، وأسهم في تعميق هذا الحراك ما راح يظهر على صعيد التأثر بالفكر الغربي، بل عموماً بالغرب، منذ القرن التاسع عشر، وكان لحركة الترجمة المتعاظمة عن الفكر والحضارة العالميّين دور كبير في إنتاج حراك ثقافي امتدت تياراته من أقصى "اليسار" إلى أقصى "اليمين"، في حينه، من الماركسية إلى تيارات الإسلام السياسي بأطيافه المختلفة، وما بين ذلك، مضافاً إلى ذلك التيار الليبرالي وغيره. ها هنا ينبغي التنويه بأن ما راح يتعاظم في سوريا الجديدة في إطار المشرع الوطني "السياثقافي"، بدأ يواجه هزّات متصاعدة بخطورتها. وكان ذلك قد تبلور في بروز حركات انقلابية عسكرية قادتها فئات عسكرية مغامرة أو خاضعة لمرجعيات حزبية داخلية، وأخرى ظهر ارتباطها بالخارج عبر عدد من المشاريع الاستعمارية. وقد عنى ذلك أنه أخذ يمتد إلى حقلين اثنين، الجيش الوطني والمجتمع العمومي. وظهرت تأثيرات ذلك حتى في العملية التاريخية الكبرى، التي طرحت نفسها باسم المشروع القومي العربي، ونعني التوحيد بين سوريا ومصر، الذي مثّل في حينه حُلماً عربياً كبيراً. ولتعقيد الموقف واختراقه من قوى "وحدوية" مضادة للديمقراطية الحزبية، استجاب ضباط من الجيش السوري لرغبة عبدالناصر ولقوى أخرى في مصر وسوريا وهي إصدار مرسوم يحظر الأحزاب والحياة الحزبية في كلا البلدين، علماً بأن عبدالناصر أسّس تنظيماً سياسياً، وكان ذلك طريقاً لتفكيك الوحدة الثنائية إيّاها. لقد جاء تفكيك تلك الوحدة عبر الخطأ (الإجرامي) القاتل، الذي ارتكبه مَن أسّس لها: لقد أنهوا القوى الحية في المجتمع السوري، التي تأسست على مدى عقدين اثنين، أي الحراك السياسي الثقافي على أيدي من كان طرفاً مهماً في التأسيس للمجتمع المدني: المؤسسات المجتمعية، التي نشأت بمثابة امتداد للدولة السورية الناشئة، وقطْع معها، بمعنى أن تكون رقيباً على هذه الأخيرة. وكان ذلك دفْعاً باتجاه حظر الحرية الديمقراطية المُنجزة على امتداد عقدين ونيف. وجاء الانقلاب العسكري لعام 1963 ليتمم العملية، فيصدر قانون الطوارئ، الذي استمر حتى مرحلتنا المعيشة. وفي ظل ذلك تبلورت اتجاهات الاستبداد والاستفراد والفساد، لتحطم آخر ركائز الدولة الوطنية والمجتمع المدني.