على مدى شهور امتد التحقيق البرلماني في قضية القرصنة والتنصت والتجسس التي اتهمت بها صحيفة "نيوز أوف ذا وورلد" البريطانية، وتوصل إلى إدانتها والحكم على مالك المجموعة التي تملكها "روبرت مردوخ" بأنه "تعامى" عن الفضيحة رغم أنها استغرقت عشرة أعوام، واعتبر بالتالي أن مردوخ "غير مؤهل" للإشراف على شركة عالمية كبرى. نادراً ما تشهد بريطانيا تحقيقات تتناول وسيلة إعلامية، ولم يقحم القضاء العادي في هذه القضية، بل عهد بها إلى لجنة من "مجلس العموم" رصدت ثمانمائة شخصية جرى التدخل في خصوصياتها بحثاً عن أخبار مثيرة وسباقات صحفية. لم تكن هذه مجرد مبالغة في استخدام أدوات الاتصال الحديثة ولا مجرد إساءة ممارسة مهنية للصحافة، وإنما تبين أنها أشبه بمنظومة فساد تداخل فيها الاعلاميون بالأمنيين لم تتمكن أي روادع أخلاقية من لجمها. كان بعض الضحايا من المشاهير نبهوا إلى ما يحدث، لكن بلوغ التنصت عتبة الاعتداء على خصوصيات أناس عاديين هو ما فجّر الفضيحة التي هزّت مجتمع الإعلام ودفعته إلى مراجعة معاييره. بعد يومين على إدانة مردوخ، احتفل القضاء التونسي على طريقته باليوم العالمي لحرية الصحافة، في الثالث من مايو، إذ قضى بإدانة قناة "نسمة" التلفزيونية وألزم مديرها دفع غرامة مالية، عقاباً على بث نسخة مدبلجة من فيلم "برسيبوليس" للمخرجة الإيرانية-الفرنسية مرجان ساترابي، وقد اشتكى متدينون متشددون بأنه يمسّ بالذات الإلهية. كان محتجون من التيار السلفي هاجموا القناة معربين عن السخط والغضب، وذهبوا إلى حد المطالبة بإعدام صاحبها. لا شك أن الحكم القضائي جاء رمزياً بالنظر إلى التوقعات السابقة التي أشاعت احتمال إغلاق القناة، إلا أن الإدانة شكلت استجابة لضغوط الإسلاميين، ما يعني أنها تمثل رادعاً مستقبلياً، رغم أن السبب الذي استندت إليه لا يخرج عن كونه مجرد وجهة نظر يتصيّد أصحابها أي ذريعة لإثارة الشارع ولتأسيس رقابة جديدة خلفاً لتلك التي مارسها النظام السابق في تونس. وجهان، إذاً، لحرية الإعلام، فحيث هي راسخة وعريقة، أي في بريطانيا، أفضت إلى فضيحة أخلاقيات، وحيث هي في صدد الانبثاق من تحولات "الربيع العربي" تشعل مواجهات في الشارع، وليس مؤكداً أن القضاء حسمها لأن الذين اختاروا هذه المواجهة انطلقوا من "قوانينهم" الخاصة. في تونس وسواها من البلدات المتحول يتفاعل مخاض سياسي اجتماعي بحثاً عن قوانين جديدة لتنظيم الإعلام، وثمة مخاوف وشكوك في إمكان التوصل إلى تشريعات حديثة ومتوازنة. الفارق في التحقيق البريطاني أنه لا يسترشد بأي قانون للإعلام، ولا يطالب بسن أي تشريع استثنائي، وإنما انكب على التعرض لحرية الناس، ووجد حال فساد مالي، واستخدام وسائل غير مشروعة تنزلق بمهنة الصحافة إلى نشاط ابتزازي غير مقبول. أما المعيار في الحدث التونسي فهو السعي إلى فرض مفهوم مختلف للرقابة وليس مفهوماً آخر للحرية. فيما تجري الاستعدادات لورشات الدساتير الجديدة التي يفترض أن تترجم وتجسد طموحات التغيير، يتبين أن الحريات لم تصبح بعد من المسلّمات، كما يدعي كثيرون من المتفائلين. تكمن المفارقة في أن دساتير الأنظمة المتساقطة لم تكن مسيئة، وباستثناء المواد التي حرصوا على تعديلها لضمان مكوثهم على كراسيهم فإن النصوص الأخرى كانت متقدمة، لكن العلة الأساسية كانت في عدم احترام الدستور وعدم تطبيقه، لا نصاً ولا روحاً. ولا شك أن صعود قوى كانت مضطهدة من الأنظمة السابقة يمنحها الفرصة لقلب المفاهيم بدءاً من شكل النظام إلى المسموح والممنوع في الإعلام، لذلك تبدو هذه الورشات الوطنية كمنعطفات مفتوحة على كل الاحتمالات، وفقاً لـ"تسريبات" يبن القوى السياسية، وهذه لا تتمتع بخيارات قوية متقاربة بالنسبة إلى احترام الحريات. لكن البلبلة السياسية كما نراها، ولو بنسب متفاوتة، في مصر وتونس مثلاً، أثّرت في الإعلام وتأثرت به في آن، غير أن التفلّتات التي انزلق إليها طرحت تساؤلات كثيرة عن أي إعلام نتجه إليه بعد ثورات "الربيع العربي". ثمة شكاوى في كل الاتجاهات، من الروح الثأرية كما من التشهير، ومن هبوط مستوى الخطاب كما من اختلاق الأخبار، من تزعزع القيم الاجتماعية كما من ضياع البوصلة. لحسن الحظ أن هناك جهوداً جيدة تبذل على مستوى المجتمع المدني، تخطيطاً وتدريباً، انطلاقاً من وعي حقيقة ثابتة أن الإعلام يبقى ميزان الحريات، وإن تلك التحولات قامت أساساً من أجل استعادتها.