لا يزال الشبان الإيرانيون -وإن قلُّوا عدداً وقلت المناسبات- يهتفون بمقولة علي شريعتي بشأن التفرقة بين التشيُّع العلوي والتشيُّع الصفوي! التشيع الأول هو تشيُّع الشهادة والمظلومية وتطلُّب السلم والأمن والعدالة وإنسانية الإنسان، والتشيُّع الثاني هو تشيُّع السطوة والسيطرة وشنّ الحروب باسم الطائفة والطائفية، والتجبر على الناس، وممارسة المُلْك العَضوض، وصَُنْع الإمبراطوريات على الجماجم! ومع أنّ شريعتي اغتيل أيام الشاه، فإنه ما كان من الرموز المفضَّلين عند قادة الجمهورية الإسلامية الجديدة، لما لمسوه في مقالاته وكتبه من إعراض عن الدولة الدينية، مثل إعراضه عن الدولة الإمبراطورية. لكن المقولة انتشرت خلال الحرب العراقية الإيرانية، ليس للتفرقة بين نوعين من التشيع وحسْب؛ بل ولإدانة حرب صدام على إيران ذات التشيع العلوي. وقد قلَّ استعمالُ هذه المقولة أو المُفارقة بعد انقضاء الحرب، ليس لأنّ الناس أرادوا نسيانَها، بل لأن اتجاهات الدولة الإيرانية إزاء الداخل صارت تُذكِّرُ كثيراً بزمن الشاه، وبزمن إسماعيل الصفَوي الذي أقام أول دولةٍ شيعيةٍ في إيران، بالتحالُف مع العلماء، أو بالصمت من جانبهم والاعتزال. بيد أن تلك الحرب الهائلة في ثمانينيات القرن الماضي بقيت جُرحاً نازفاً في الأعماق، وظلّت جاهزةً للاستعمال والاستغلال سواء على مستوى العلائق بين الشيعة والسنة، أو على مستوى العلائق بين العرب وإيران. إن الذي حدث في منطقتنا وعليها، وفيما بين بلاد الشام والعراق من جهة، والخليج من جهة ثانية، أعاد هذه الاشتباكات العميقة والممتدة بين المذهبين، وبين القوميتين إلى السطح. وما اقتصر الأمر على المشاعر، بل تعدى ذلك إلى السياسات والاستغلالات والحسابات التكتيكية والاستراتيجية. وقد أخذت إيران زمام المبادرة في ذلك كُلِّه. وقد بدا للوهلة الأُولى، في عهدي رفسنجاني وخاتمي، أن العلائق مع العرب عادت للتطبيع، إنما بقي الحصار الأميركي على إيران كأنما الوضْع لا يزالُ على ما كان عليه عشية ارتهان الدبلوماسيين الأميركيين في السفارة بطهران عام 1980. ثم عاد الصدْع للانفتاح عندما هاجم جهاديو بن لادن الولايات المتحدة، وانطلقت الحرب الأميركية على الإرهاب، والتي نالت بشُواظها ليس أفغانستان والعراق فحسْب؛ بل والعرب أجمعين. إنما الطريف وذو الدلالة أن طرفين رئيسيين كانا الأكثر إفادةً من الحرب الأميركية على الإرهاب، هما إسرائيل وإيران. بادرت إسرائيل أولاً مع الأوساط الأمنية والعسكرية والسياسية الأميركية، ومع الأكراد، ومع المعارضات العراقية بالخارج، بالاستحثاث على غزو العراق. ودخلت إيران على خط الإثارة والإفادة متأخرةً بعض الشيء، فأيقظت النعرتين معاً: المذهبية والقومية. فقد دخلت مع "تحالف الشمال" والولايات المتحدة إلى أفغانستان، كما دخلتْ مع المعارضة العراقية والعسكر الأميركي إلى العراق. واعتمدت في ذلك على تغطيتين: مصارعة الأصولية السنية في أفغانستان وباكستان والعراق، والضغط على الأميركيين والإسرائيليين (والعرب) بالملف الفلسطيني من خلال "حزب الله" والإسلاميين الفلسطينيين. وبين الجد والهزل، وجدْنا أنفُسَنا في عام 2006-2007 في خضم حربٍ طائفيةٍ بين السنة والشيعة بالعراق. ما لبثت أن امتدت إلى لبنان، كما وجدْنا الضغوط تشتدُّ على عرب الخليج، وكلُّ ذلك بحجة مصارعة الأميركيين! وما تغيرت السياسات الإيرانية للاستغلال والإفادة، بل الذي تغيَّر هو السياسات الأميركية التي رأت منذ أواخر أيام بوش الابن أنه لابد من العودة بالتدريج إلى سياسات القبضة الناعمة للخروج من المأزق العراقي من جهة، ولتشديد الضغط على إيران من أجل النووي، مقابل صفقةٍ على العراق، وربما على ما هو أبعد من ذلك. وقد اعتقدت إيران أنها تستطيع الحصولَ على كلّ شيء، وليس في العراق وبلاد الشام فقط، بل وفي النووي أيضاً. ثم قامت الثوراتُ العربيةُ، والتي اعتبرها الأميركيون والإيرانيون والروس والإسرائيليون والأتراك ثوراتٍ سنية. وزاد الطينَ بِلّةً وصولُها إلى سوريا، حليف إيران الرئيسي في مشرق العالم العربي. ثم اندلع الخلافُ بين المالكي حليف إيران من جهة، والأكراد والسنة وبعض الشيعة من جهةٍ أُخرى. وهكذا وجد الحاكمون في طهران أنفسَهم في مواقع الدفاع في كلّ مكان: في العراق وسوريا وفلسطين، بينما يشتد الحصار الغربي عليهم بسبب النووي. وما ترددوا في استخدام العامل المذهبي في كل الأماكن: من اليمن إلى البحرين فلبنان وسوريا والعراق وأذربيجان وأفغانستان. وما عاد بالوُسع تصوير الأمر على أنه مُواجهةٌ مع الأميركيين، لأن الشعوب العربية الثائرة (خاصة في سوريا) تهتف ضدهم وضد "حزب الله"! لذلك فقد استخدموا أخيراً العاملَ القومي؛ إذ ظهر نجاد فجأةً في الجزر الإماراتية المحتلة! فمع تصاعد مشكلاتهم وأزماتهم مع المجتمع الدولي، ومناطق النفوذ، بقي الخليج العربي صامداً، وحفظت دوله أمنَها واستقرارها، بل واندفعت لاستعادة الملف الفلسطيني، ولمساعدة الليبيين والسوريين على الخلاص من نظامي الاستبداد في البلدين. وفي الوقت نفسِه، هبَّ خصوم نجاد من محافظي خامنئي لمحاسبته على مجريات المرحلة الماضية، وبخاصة أنهم رأَوا استحالة المُضي في برنامج التسلُّح النووي، وصعوبة البقاء في العراق وسوريا ولبنان والبحرين. وهكذا جاء نجاد إلى الجزر الإماراتية لإثارة الحساسيات الوطنية والقومية الإيرانية، وإخماد الضجيج ضدَّه، وفي الوقت نفسِه تحذير خامنئي ومن حوله من التخلّي عن النووي. وبالفعل، وبعد الزيارة، تصاعدت أصواتٌ ضدَّ العرب، وكثُر الحديث عن وحدة الأراضي الإيرانية. وهي وحدةٌ ما تحداها أحدٌ، ولا كان ملفُّ الجزر مطروحاً باعتباره من موضوعات الحرب وبواعثها. ما كان التشيُّع مهدداً، ومع ذلك فقد استثمر نظام ولاية الفقيه في هذه "النُصرة" طوال أكثر من عقدين. وما كانت القومية الإيرانية مهددةً، لكن فشل النظام الإيراني في كل المسائل، وضمنها مسائل الامتداد الإمبراطوري تحت اسم تصدير الثورة، هو الذي يجري الاستثمارُ فيه الآن. بيد أن هذه المسائل العاطفية والتي تثير مشاعر العامة بالمغالطة والتزوير، ليست قادرةً على إطعام الجوَعى، ولا على تغطية هدْر الجهود والأموال على مدى العقدين الماضيين. وقد اعتادت حكومات الثوريين والعسكريين على إثارة الموضوعات الخارجية عندما يكثر فشلُها بالداخل. فلننظر إلى "الأسد"، وهو لا يزال يزعم أنّ مشكلته سببها كونه نظام مقاومةٍ وممانعة! ولنتأمَّلْ خامنئي ومَنْ حوله، وهم يحاولون إثارة الصراع السني الشيعي أو الإيراني العربي للإلهاء عما يحصل بالداخل، وعن سياسات التبجح طوال العقد الماضي. ولستُ أدري كيف تستفيد إيران من خرابٍ العراق أو سوريا، أو من وراء اضطرابٍ الخليج؟ لكنها سياساتٌ ثأريةٌ وعشوائية سادت منذ الثورة. واجههم صدَّام في زمن ثورتهم فترك أحقاداً هائلة، وها هم يواجهوننا في زمن "الحرية والكرامة"، وأخشى أن التداعيات لن تكونَ أقلَّ هَولاً وخطورة. إنما من جهةٍ أخرى: لماذا يكون الجنرال سليماني أعقل من "الجنرالات" القذافي وصدام والأسد؟!