في تاريخ الأمم ثمة شخصيات قيادية تُعزى إليها التحولات الكبيرة في مسار شعوبها نحو الأفضل بفضل رؤية ثاقبة، أو جرأة على تحدي الصعاب، أو نفس طويل في مقارعة الأعداء. من الأسماء التي لا بد أن يتوقف عندها قارئ التاريخ ملياً ويتعلم منها الدروس والعبر، المهاتما غاندي في الهند، ونيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، و"لي كوان يو" في سنغافورة، ومصطفى كمال أتاتورك في تركيا، وعبدالعزيز آل سعود في المملكة العربية السعودية، وزايد بن سلطان آل نهيان في الإمارات، وغيرهم كثر. الآن يمكن إضافة اسم جديد إلى هؤلاء هو الجنرال المتقاعد "تين سين" الذي تسلم السلطة في ميانمار (بورما) في عام 2011 خلفاً لزميله المتعجرف ذي الملامح المتوحشة والقبضة القمعية الجنرال " تان شوي". يعرف المتابعون للشأن البورمي أن "تين سين" كان ساعداً أيمن لـ "تان شوي"، ويعرفون أيضاً أنه كان رئيساً للحكومة يوم أن قررت السلطة في 2007 قمع انتفاضة الرهبان البوذيين بالقوة المفرطة، بل يعرفون فوق ذلك أنه كان شريكاً في كل القرارات الجائرة التي اتخذها النظام العسكري ضد شعبه منذ قمعه لانتفاضة 1988 الديمقراطية التي سقط فيها آلاف المدنيين، على إعتبار أنه كان عضواً منذ 1997 في ما عُرف بـ"مجلس الدولة للسلام والتنمية"، وهو الاسم الرسمي للطغمة العسكرية الحاكمة الذي تحول الآن إلى حزب سياسي تحت اسم "حزب اتحاد التضامن من أجل السلام والتنمية". والجدير بالذكر في هذا السياق أن "تين سين" منذ تقاعده ومجموعة من زملائه العسكريين في 2010 ترأس هذا الحزب وخاض باسمه انتخابات برلمانية مثيرة للجدل، وخرج منها فائزاً بنسبة 91 بالمئة من الأصوات. لذا كان السؤال عن تحوله الفجائي إلى داعم للديمقراطية والمصالحة الوطنية، ومتخذ لقرارات جريئة بالإفراج عن زعيمة المعارضة، الفائزة بجائزة نوبل للسلام، وإبنة بطل الاستقلال السيدة "أونج سان سوشي" مع السماح لها باستعادة كامل حقوقها السياسية، سؤالاً مشروعاً وشاغلاً للجميع ومثيراً لوجهات نظر متباينة في الداخل والخارج. البعض رأى في تحول الرجل الذي صار يطلق عليه محلياً "ميخائيل جورباشوف ميانمار" كناية عن دفع بلاده نحو التغيير على نسق ما فعله الزعيم السوفييتي الروسي السابق أمراً طبيعياً كونه كان على الدوام أقل زملائه العسكريين غلظة، وأكثرهم إنسانية وإعتدالاً وانفتاحاً على المواطنين وابتعاداً عن شهوة السلطة ومغرياتها، ناهيك عن كونه قارئاً نهماً لأمهات الكتب، ومتابعاً دقيقاً لما يجري في العالم من تغيرات وحراك، وصاحب رؤية مستقلة. البعض الآخر رأى في تحول هذا الزعيم النحيل صاحب النظارات الطبية الأنيقة اتساقاً مع مرحلة جديدة في تاريخ ميانمار هي مرحلة التخلي عن البزات العسكرية الكاكية ونياشينها لصالح البزات المدنية والملامح الناعمة، أملاً في كسب قلوب الجماهير في الداخل، وقلوب الحكومات والمنظمات الأجنبية، وبالتالي الخروج من الحالة الخانقة التي وصل إليها الاقتصاد ومستويات المعيشة ومعدلات البطالة في بلد لا ينقصه شيئاً سوى الإصلاح والحريات والشفافية لينضـّم إلى ركب منظومة النمور الآسيوية كما قال المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ميانمار "فيجاي ناميبار"، حينما ذكر العالم بأن بورما بمساحتها الشاسعة التي تعادل مساحة إنجلترا وفرنسا، وعدد سكانها الذي يفوق 50.5 مليون نسمة، ومواردها الزراعية، وطبيعتها الساحرة، وطموح شعبها للعمل الخلاق، قادرة خلال فترة وجيزة على أن تصبح صنواً لجارتها تايلاند، خصوصاً مع قرار طوكيو مؤخراً الاستثمار في تحديث البنى التحتية المهترئة في ميانمار، وإسقاط 3.7 مليار دولار من ديون الأخيرة المستحقة، وإعادة جدول الديون المتبقية، ناهيك عن قرار شركة "هوندا" لصناعة المركبات اليابانية افتتاح مصانع للتجميع في ميانمار. غير أن فريقاً ثالثاً راقب "تين سين" منذ تخرجه من أكاديمية الخدمات الدفاعية في 1968 وتدرجه في الرتب والوظائف العسكرية، وتابع تصريحاته ومقابلاته مع وسائل الإعلام، ونقب عن حياته الشخصية ومراحله العمرية منذ ولادته في قرية "كيونكو" الفقيرة النائية الواقعة في دلتا "إيراوادي"، له رأي آخر مفاده أن ما جعل "تين سين" يقود حركة التغيير والإنقاذ في بلاده هو خصائص ذاتية مثل عواطفه الجياشة تجاه المعدمين، وتواضعه الجم، وما تعلمه من ثقافة اللاعنف، وحب الخير، والنأي بالنفس عن الفساد والملذات واستغلال السلطة التي لقنها إياه والده "يو موانج" الذي لم يكن كغيره من ملاك الأرض، وإنما كان راهباً بوذياً مثقفاً ومحبوباً، ويكسب قوته من صناعة السلع الخيزرانية ونقل الأمتعة بواسطة المراكب النهرية. ويورد هذا الفريق عدة شواهد كدليل على صحة نظريته منها أن القرية التي تربى فيها "تين سين" ظلت مهملة ودون طرق معبدة أو مياه شرب نظيفة، رغم وجود ابنها في السلطة وقدرته على استغلال موقعه الرسمي لتعديل أوضاعها مثلما كان يفعل زملاؤه تجاه مساقط رؤوسهم. وهذا دليل بطبيعة الحال على أمانته وكراهيته لاستغلال النفوذ الوظيفي. ومنها أيضاً تفقده لمواطني قريته وتواصله معهم، على العكس من زملائه الذين حبسوا أنفسهم في قصورهم في العاصمة "يانجون"، وفي هذا دليل على تواضعه وحبه للناس، ومنها أيضاً صرامته مع زوجته وابنته للتخلي عن أي مظاهر من مظاهر التباهي الاجتماعية والتي غرقت فيها عائلات زملائه العسكريين إلى الدرجة التي جلبت لهم نقمة مضاعفة من لدن البورميين الفقراء. أما الفريق الرابع، فيعزي دوافع الرؤية الإصلاحية عند الرجل تحديداً إلى انفطار قلبه وحزنه على ما رآه بنفسه، أثناء جولة له بمروحية عسكرية، من دمار وضحايا وجثث طافحة فوق مياه الأنهار جراء إعصار "نرجس" الذي اجتاح أرياف ميانمار وتسبب في مقتل 13 ألف مواطن في 2008. ويضيف هذا الفريق قائلاً إن "تين سين" شعر وقتها بالعار، خصوصاً أن حكومته لم تفعل شيئاً إزاء الكارثة، بل ورفضت قبول المساعدات الأجنبية بحجة السيادة والكبرياء الكاذبة، فقرر آنذاك أنه لا بد من التغيير رحمة بالبلاد والعباد من قبضة جنرالات المؤسسة العسكرية الذين أمسكوا بخناق بورما منذ انقلاب الجنرال "ني وين" المشؤوم في 1962 ضد الحكومة المدنية المنتخبة ديمقراطياً بقيادة "أونو" الذي برز في مؤتمر باندونج في 1955 كأحد أقطاب حركة عدم الإنحياز. د. عبدالله المدني باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين elmadani@batelco.com.bh